إن العنف الرمزي قضية محورية في أعمال بورديو. ففي معرض
تعريفه بالدولة،يعطي العنف الرمزي معنى
الضغط أو القسر أو التأثير الذي تمارسه الدولة علىالأفراد
والجماعات بالتواطؤ معهم. ويبرز هذا المعنى على نحو جليٍّ فيالتعليم
الذي يمارسه النظام المدرسي لناحية الاعتقاد ببديهيات النظامالسياسي،
أو لناحية إدخال علاقة السلطة إلى النفوس كعلاقة طبيعية من وجهةنظر المهيمنين.
وقف بورديو على الدوام ضد النظام التعليمي القائم على تلقين المعلومات
ونقدبشدة المدارس ومناهجها. وحسب رأيه يجب أن تكتفي الدولة بتعليم
التعليموتدريب الناس على تحصيل المعرفة. فالرجل
يرفض الأدلجة ولا يقبل أية شبهةللتأثير
السياسي في التعليم. فالمدرسة في مجتمعنا هي إحدى مؤسسات المجتمع المدني الأساسية
التي تنتظم فينسق كلي للمجتمع وفق قواعد
محددة، وتخصصت تاريخيا في مجال الممارسةالتربوية
الثقافية، وتلتقي بذلك في وظيفتها وتتكامل مع الأسرة في مجالالتنشئة
الاجتماعية الثقافية، وقد نشأت المدرسة في المجتمع البشري الذي عرفتقسيم العمل وتشكل الدولة لتكون رديفا للأسرة في الوقت الذي استحال فيهعلى الأسرة تلقين النشء مختلف المعارف الثقافية، وهي تؤدي دورها هذا
المنوطبها تحت هيمنة الدولة، والطبقة السائدة.
فهي إحدى أجهزة الدولةالإيديولوجية في مجال الفعل
التربوي، يقول ماركس: إن الأفكار السائدة هيأفكار
الطبقة السائدة وهي أيضا أفكار الهيمنة .والسمة السائدة والطاغية علىمؤسساتنا التعليمية هي سمة السلطوية التي
ورثها نظامنا التعليمي عن النظام التعليمي التقليدي وطعمها الاستعمارلخدمته ثم حافظت البورجوازية على إستمراريتها بعد الاستقلال. وقد بقيالنظام التعليمي ممزقا وتابعا للمركز الاستعماري على المستوى التنظيمي
وعلىمستوى التسيير زد على ذلك محتوى البرامج والمناهج المدرسية.
كما أن الطبقةالمسيطرة تهيمن بشكل مفرط
على مراقبة الانتقاء لتكريس طابع التراتبية .
وهكذا فالمدرسة اليوم تلعب دورا أساسيا في إعادة إنتاج العلاقات
الاجتماعيةالسائدة في المجتمع محققة
هيمنة الدولة وسيادتها بواسطة الإقناع والتراضيحسب
تعبير غرامشي أو بواسطة عنف وإكراه وقسر يختلف عن عنف الدولة الماديبكونه عنفا رمزيا حسب بيير بورديو. ويعرف لينين المدرسة بكونها أداة هيمنة طبقية في يد
البورجوازية، إن هاتهالطبقة المهيمنة كما يرى
بورديو وباسرون، لا ترى أو أنها لا تريد أن ترىالعلاقة
بين التفاوتات الاجتماعية والتفاوتات المدرسية، إنهم يفسرون- الطبقة
السائدة- النجاح المدرسي بكونه تفاوتا بالملكات، وبرأيهم مشكلالملكات الفكرية يطرح فقط لدى الغير المتفوقين والراسبين من أبناء الطبقاتالمقهورة والنجاح المدرسي في رأي البورجوازية المسيطرة يرجع إلى ميزانشخصية خاصة منذ الولادة، والمدرسة لا تخلو من انعكاس التناقضات الدولة/ المجتمع
على بيئتها وأدائها الوظيفي، فكل الصراعات القائمة بين القوىالاجتماعية
بسبب مواقعها المتفاوتة في بنية الإنتاج المادي والثقافيللمجتمع،
تخترق المجال المدرسي وتؤثر في مضامين القرارات والمناهج وطرقالتلقين، وهذا دليل قاطع على الارتباط الكبير بين المدرسة ومحيطهاالاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي… بالدولة وبالمجتمع المدني. إن كل خلل وظيفي يطرأ داخل المجتمع لأي سبب كان يؤثر سلبا
ويخلق أزمة داخلالمدرسة يكون لها تأثير على
إعادة إنتاج الدولة لذاتها، وكذا إعادة إنتاجالنظام
الاجتماعي في مجمله. وعندما يخترق هذا الخلل الزوج السائد الأسرة/ المدرسة
داخل النظام الدولتي حتى يتعرض الوجود الاجتماعي كله لخطر التفككوالانهيار.
إن المدرسة اليوم في المجتمع لا تعيد إنتاج المجتمع المبني على تساويالحظوظ، إنها لا تزال تتخبط في إرث الإيديولوجية القديم. إرث البورجوازيةالمسيطرة. إن تأثير المدرسة من حيث: نمط الحياة، التربية الأسرية والحظ
في التربيةكلهم مختلفين، فثقافة
الطبقات المحظوظة تتساوق مع ثقافة المدرسة، وعاداتهمتماثل
العادات المكتسبة داخل المدرسة. فالمدرسة نظام خاص من أنظمة التفاعل
الاجتماعيجعلها أكثر أهمية. وهي تتميز عن محيطها
بالروح التي تسود داخلها وهي الشعوربالنحن،
وبذلك فهي لا تعمل على صنع المستقبل دون اعتبار للحاضر. وإنما يجبأن ترتكز
على حاضر التلميذ من جميع الجوانب، وفي تركيزها على الحاضر إنما تعد وبشكل
جيد للمستقبل في الوقت ذاته كما يرى جون ديوي.
إلا أن ثقافة المدرسة كما يرى باسرون و بورديو، ليست على نحو مباشر هيالثقافة البورجوازية. لكنها متساوقة معها بكيفية مباشرة، خصوصا عبرالسلوكات الذهنية، واللسانية والثقافة، وتم تصور أشغال المدرسة وخصوصااشتغال العلاقة البيداغوجية كآلة لإنتاج التفاوتات الاجتماعية، إذ لا يمكنالحديث عن فرصة تساوي الحظوظ ليس لآن المواهب التي تتحدث عنها الطبقاتالمهيمنة موزعة بكيفية متفاوتة بل لأن المدرسة تشجع التدابير الخاصةبالطبقات المبجلة، إن جل ميكانيزمات المدرسة هي في الأصل أساليب لانتقاءأطفال الطبقة المحظوظة وإقصاء الآخرين. فمدرسة إعادة الإنتاج حسب بورديو
لاتنتج أطفالا أحرارا، خصوصا وأن التفاوتات المدرسية منظور
إليها كتفاوتاتفي الاستحقاق. تضفي الشرعية
على التفاوتات الاجتماعية التي تصدر عنها وتعيدإنتاجها. إن المدرسة أداة للخضوع والامتثال، وسواء باسرون و بورديو أو
آخرون يربطونوظيفة المدرسة ببنية الطبقات
الاجتماعية. أما اليتش فحين ينتقد المدرسةفلأنه
يرى أنها تنتج التفاوتات الطبقية.
فهي تلعب بذلك دور المحدد الأساسي في التقسيم الطبقي، ويضيف اليتش أنالمدرسة مكان لم يلجه نصف البشر وتبقى بذلك المدرسة لا تهدف إلا لتطويرصناعات عقول مملوءة وهو نوع آخر من التبضيع الدراسي والثقافي. إن تنظيموظيفة النظام التعليمي تترجم باستمرار وبواسطة شفرات متعددة التفاوتاتالطبقية على المستوى الاجتماعي إلى تفاوتات على المستوى المدرسي.
فالمدرسة مثلا تحت ظل ديمقراطية التعليم والمساواة- و هذا شعار طالمارفعته دول عديدة- تحدد الناجح وغير الناجح، والمتقدم والمتأخر، ولكن ولأنالرأسمال الرمزي متفاوت بفعل تفاوت المستويات المجتمعية – فمجموع معارفالأغنياء يتناسب مع سواهم لأن المدرسة تحاكم الجميع وفقا لـ “رأسمال رمزي” لمجموعة
واحدة هي عادة الطبقة الوسطى. فتصير هذه المؤسسات أداة طبقية لـ “إعادة
إنتاج” السلطة القائمة في المجتمع. طالما أن معايير التمايز هي وفقالطرف واحد وليس معيار كلي.
ومن أجل أن يتم اعتماد قيم الطبقة الوسطى كمعايير تربوية، يمارس “ العنفالرمزي باعتبار أن أي آلية تربوية ستمارس جهدها لإبراز قيم وإخفاء أخرى. فالخطاب
التربوي ليخفي الهيمنة، يلجأ لمفاهيم النظام والعقاب، ويمارس علىنطاق واسع ومستويات مختلفة،وبالتالي فـ “ العنف الرمزي ” هو لصيق العمليةالتربوية
دائما مهما كانت. وتصير المسارح والسينما والفنون الجميلة والهواياتالتي تتمكن منها هذه الطبقات قيم سامية، فيما ربما لا يعد الصيد مثلا كذلك .. وحتى
هواية التصوير الفوتوغرافي بعد التقدم التقني الذي يجعل معداتهبوسع الجميع تقريبا، يخرج من كونه علامة ثقافية معتبرة. إن النظام التربوي في المجتمعات ذات التفاوت الطبقي كما يرى
بورديو يعتبرأحد الآليات الأساسية
الفعالة في ترسيخ النمط الاجتماعي السائد في تلكالمجتمعات،وهذا
يبدو جليا من خلال بنية الفرصة النسبية المتاحة لأبناءالطبقات
المختلفة لدخول النظام التعليمي في مراحله المختلفة،هذا من جهة ومنجهة أخرى ثمة مظهر آخر لهذا العنف الممارس القوى السائدة وهو في تنوعالمدارس في المجتمع الواحد واختلاف مستوياتها باختلاف أصول الطبقيةللتلاميذ الداخلين إليها،فأبناء الطبقات العليا هم الذين يحتلون المدارسذات النوعية الرفيعة،وعلى ذلك فالتنوع في المدارس واختلاف مستوياتها إنمايعكس صور هذا التفاوت الطبقي ويجسد بشكل واضح أحد أهم مظاهر العنف الثقافيفي المجتمعات الحديثة. فعند دراستنا للحقل المدرسي نلاحظ أن فيها تعسفا رمزيا تشرعه
القوانينوالتقاليد المدرسية التي تشتمل في
مكوناتها الظاهرة على عدالة مصدرها تكافؤالفرص
وخضوع الجميع للقانون. وعليه فالسلطة المدرسية تتسلم في واقع الأمرتفويضا من الطبقات المهيمنة لفرض التعسف الثقافي، فعن طريق هذا التفويض
يتمتمرير العنف الرمزي بلطف.
فلو أخذنا مثالا كاللغة سنجد أن التلميذ الغني يختزن في ذاكرته رصيدالغويا هائلا بالمقارنة مع التلميذ الفقير. فالأول يستعمل لغة تجريدية ولهبروتوكول وإتيكيت عالي المستوى وله اهتمامات ثقافية ومدى اجتماعي واسع منالعلاقات ورصيد من السلوكات والخبرات لم تكن متاحة لزميله الفقير، وحينيتقدم الاثنان إلى الامتحانات من الطبيعي أن تكون فرصة الطالب الغني فيالنجاح وتحصيل القدر الأكبر من العلامات أكثر من فرصة الطالب الفقير. هذاالواقع ينطوي على تعسف ثقافي مشروع يعترف به الجميع دون أن يدركوا ظلمهوفداحته، فليس من العدل أن يخضع التلميذان لامتحان من نفس النوع والمستوىفي حين يتمايزان بشدة فيما لديهما من رصيد وفرص للنجاح.