المعرفة المعرفة

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

قراءات في نشأة وتطور المدن تاريخيا ووجهة المدينة الحديثة ومشكلاتها



سوسيولوجيا :

ارتبط نشوء المدن العظيمة التي عرفتها البشرية بعاملين مهمين هما الموارد الطبيعية وأهمها التربة الزراعية الخصبة والموقع الإستراتيجي المطل على خطوط التجارة. وكانت المدينة هي موئل الحضارة وحاضنتها حيث ترعرعت ونشأت بها فنون الإنسانية وآدابها. وبالرغم من أن التاريخ لا يكاد يعرف اليوم الذي قامت فيه أول مدينة, إلا أن أريحا بفلسطين تظل من أقدمها بقيامها على الزراعة قبل 8000 عام, وحيث بدأت ظاهرة جمع الأحجار وتكويمها لإقامة "المأوى" لتعلن نقطة التحول من مرحلة البداوة والتنقل وجمع الثمار إلى مرحلة الإستقرار.

وقد عرف العالم القديم مجموعة من المدن العظيمة التي نشأت في بلاد الرافدين حول نهري دجلة والفرات, كالحضارة الآشورية والسومرية. وكانت مدن أور ونينوى وبابل من المدن الشهيرة التي وردت في الكتب السماوية والعهد الجديد. وكان من أهمها روما "المدينة الخالدة" وأكبر مدينة في العالم عام 100 للميلاد والتي وصفتها كتابات "فتروفيوس" والتي اعاد اكتشافها المعماري ألبرتي (Leone Battista Alberti) ليعيد تعريف مدينة العصور الوسطى بساحاتها عام 1453 ولمجابهة الطراز القوطي الذي انتشر من شمال اوروبا. وعرف العالم مدنا اشتهرت بالتجارة في العصور الوسطى وأهمها مدينة القسطنطينية التي يعتبرها المؤرخون الوريث الشرعي لعظمة روما الرومانية, حيث تخاطبت القسطنطينية من موقعها الإستراتيجي تجاريا مع الهند وافريقيا وحوض البحر المتوسط وغرب أوروبا. وتلتها مع نهاية حقبة العصور الوسطى مدينة البندقية "فينيسيا" التي زاوجت البحر وترعرعت على التجارة مع الهند وفارس وشمال افريقيا. ونتيجة لذلك أضحت منعمة بالثراء الفاحش وازدهرت كعاصمة للفنون والعلم والموسيقى والأدب.


وفي العصور الحديثة نشأت وتطورت في أوروبا مجموعة من المدن المهمة التي أخذت أهمية عالمية لموقعها الإستراتيجي على خطوط المواصلات العالمية المفصلية, فضلا عن أهميتها المعنوية في رفد مظاهر الأدب والتراث حيث نشأ وترعرع كبار المفكرين والأدباء والفنانين العالميين, كلندن وباريس. ومعظم هذه المدن العالمية اليوم اعتمدت في مصاردها الطبيعية على المناطق المجاورة وعظمت أهميتها بأهمية النظام العسكري القاهر الذي بسط سيطرته ونفوذه على مناطق شاسعة من العالم. وفي هذه المدن ازدهرت حركة الملاحة البحرية بتوسع الإستعمار وحدود الدولتين البريطانية والفرنسية. ونتيجة لدور هذه المدن ووقوعها على خطوط المواصلات والتجارة من جهة ووقوعها الإستراتيجي على شواطئ البحار والأنهار تم تطويرها كموانئ ملاحة استراتيجية وعالمية بما يتضمنه الميناء من حركة بضائع وتخزينها فضلا عن أعداد السفن التي تتقاطر إليها وترسو في موانئها. ومن هنا فمع العام 1820 طورت بريطانيا نظاما فريدا للموانئ بوسعه تخزين أكثر من 1400 سفينة تجارية.



وتتراكم اليوم أكثر من أي وقت مضى مجموعات من التساؤلات حول وجهة ومصير العالم في ظل تنامي أعداد سكان المدن وظاهرة التمدن, على حساب الأرياف, والتي تطرد بازدياد متسارع مقلق. فالتحضر أصبح ظاهرة عالمية منذ أكثر من قرنين من الزمان. فالعالم في العام 1800 لم يعهد مدينة يصل عددها المليون باستثناء مدينة واحدة هي لندن. وبينما كان عدد سكان المدن المائة الكبرى في العالم قاطبة لا يزيد عن 20 مليون نسمة آنذاك, أصبح عدد سكان المائة مدينة كبرى مجتمعة يزيد عن 540 مليونا في العام 1990, أكثر من 220 مليونا منهم يتركز في 20 من هذه المدن العالمية الكبرى مثل طوكيو التي يزيد عدد سكانها عن 30 مليونا اليوم, ومكسيكو سيتي 20 مليونا ونيويورك 10 مليون. وليس هذا فحسب, فهذه المدن الحديثة تشكل فقط 2% من مساحة سطح الكرة الأرضية ومع ذلك تستنفد ثلاثة أرباع المصادر الطبيعية للأرض, وتطرح نفس الكمية الهائلة من الفضلات ومخلفات الصناعات.


ومسألة العلاقة بين التجمعات البشرية والإستفادة من موارد الطبيعة مسألة قديمة عملت على تقويض حضارات عظيمة سادت ثم بادت. فمثلا طورت مجتمعات الحضارتين الآشورية والسومرية نظما عبر العصور للإستفادة من البيئة الطبيعية ومكافحة فيضان الأنهار. بيد أن عدم قدرتها على الإستفادة من فائض المياه بعد زراعة محاصيل القمح وبفعل التبخر أدى ذلك إلى ملوحة التربة مما أجبر المزارعين على زراعة الشعير بدلا من القمح. واليوم ما تزال تعاني تربة مواقع حضارة سومر من الملوحة حيث يرصد العراق الملايين لمعادلة ملوحة التربة المتوارثة منذ قديم التاريخ ويعتمد تبعا لذلك على 70% من احتياجاته الغذائية على الإستيراد.



وتشكل قضية علاقة المدينة الحديثة بالبيئة المحيطة أحد أبرز المشاكل المعاصرة الآخذة بالإتساع. فمشاكل التلوث بأنواعه المعددة, وتناقص الموارد الطبيعية بتزايد رقعة المدينة على حساب الأراضي الزراعية, وتزايد طبقة الآوزون بالجو الناتج من غلاف سميك من (Carbon dioxide) بات المتهم الرئيس في التغير المناخي المعروف (Global Warming), والمشكلات الإجتماعية كالبطالة والجريمة وتغير مفاهيم الصحة الفردية وتدهورها في المدينة, كلها من المتغيرات المستجدة التي تحتاج لبرامج المؤسسات والحكومات على المديين القصير والطويل. 



ومن أبرز المشكلات البيئية التي تطرحها مدن اليوم هي مشكلة التزايد المستمر في درجة حرارة العالم أو ما يعرف "بالتسخين العالمي" أو (Global Warming). ومعلوم أن المدينة تزيد درجة الحرارة بها عن التجمعات السكنية الكلاسيكية, كالقرية والبلدة الصغيرة, لثلاثة عوامل رئيسة: الأول هو أن المدينة كبيئة مبنية تحبس الحرارة وتخزنها عبر منشآتها وطرقاتها الأسفلتية وجدرانها وأسقفها الإسمنتية ثم تعيد بثها في الجو المحيط. ثانيا فالمدن هي مراكز استهلاك الطاقة, ومعدل استهلاك الفرد من الطاقة في دول العالم المتقدمة للفرد الواحد يصل إلى 10 كيلو واط. وتعمل المركبات ومصابيح الإنارة والأجهزة الكهربائية على رفع درجات حرارة الجو المحيط بالمدينة, وحتى مكيفات الهواء ترفع من درجة حرارة الجو فطبيعة عملها هي بث الهواء البارد داخل الأبنية وطرد الهواء الساخن في الجو. وثالثا تطرح المدن غازات وملوثات في الجو مثل ثاني أكسيد الكربون وثاني أكسيد النيتروجين الناتج من الوقود والتي تعمل على خلق طبقات غازية تتراكم في الجو فوق المدن. وفي حال وقوع بعض المدن في بيئات طبيعية محصورة بالجبال المحيطة تتشكل ما تعرف "بقبة الحرارة الصناعية" فوق المدن والتي تحبس الهواء الحار وتصعب عملية التخلص منه بشكل طبيعي شأن المدن الأخرى. 



ومن أبرز المشكلات الأخرى التي تواجه مدن اليوم هي المصادر الطبيعية. فقيام المدن أصلا قام تاريخيا بناء على مواقع استراتيجية شكلت العامل الرئيس في اختيار مواقعها بالإضافة إلى ميزات وقوعها على خطوط التجارة والمواصلات. ومن هنا بدأ يظهر مفهوم الرقعة الجغرافية "الفعلية" للمدينة أو (Footprint) والتي تتجاوز مساحتها الجغرافية الظاهرية. فالإقتصادي الكندي (William Rees) يعرف الرقعة الجغرافية الفعلية للمدينة على أنها المساحة الفعلية اللازمة لاكتفاء المدينة بسكانها من المصادر الطبيعية, وتمويل احتياجاتها من منتجات الأخشاب وكذلك المساحة اللازمة لطرد غازات ثاني أكسيد الكربون التي تطرحها مخلفات الصناعة بها, والمساحات الخضراء اللازمة لعمليات الأيض الطبيعي. وبهذا التعريف البسيط, فإن مدينة مثل لندن يقطنها 12% من سكان بريطانيا والتي تمتد لمساحة 170 ألف هكتار تستهلك ما يعادل "مساحة جغرافية فعلية" هي 21 مليون هكتار أو 125 ضعف مساحتها الجغرافية الظاهرية. وبكلمات أخرى يستلزمها مساحة بريطانيا الجغرافية كلها "كمساحة فعلية" لتلبية احتياجاتها البيئية ومستلزماتها بحسب تعريف (Rees). ومن هنا فمدينة روما قديما ازدهرت بقدرة الإمبراطورية الرومانية على جلب مصادر الغذاء والرفاه أبعد بكثير من رقعة المدينة الجغرافية بتقليص الغطاء النباتي الطبيعي المحيط والمناطق الزراعية مما أسهم لاحقا في أفول نجمها مع تراجع قدرات الجيش الروماني على التوسع والإبقاء على المصادر الطبيعية لرفد العاصمة الرومانية العظيمة.



ومن الأسئلة المهمة التي تطرح في فضاء التغيرات التي تضفيها المدينة الحديثة على البيئية الطبيعية هي أسئلة التعددية البيولوجية وخطر الإنقراض. فالبيئة المحيطة تثبت أن بها تنوعا مذهلا لم يتمكن العلم الحديث من سبر أكثر من السطح منه فقط. فملء قبضة اليد من التربة الطبيعية تحوي أكثر من 2000 نوع من المخلوقات التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة ولها قوانين الطبيعة في الدفاع ودورة الغذاء. وهذه المساحة المحدودة من التربة تخفي عن أعيننا مما لا نرى أكثر من مليون مخلوق منها البكتيريا كأحد أنواعها. ومشكلة الإنقراض تطرح أسئلة روحية في وجود الإنسان كخليفة وراعي ومهيمن على الكائنات المحيطة وبضرورة تسليمه للأمانة التي أؤتمن عليها كما هي في أحسن الأحوال, وفي الخسائر التي يخسرها جنس البشر من فقد أنواع عديدة من الكائنات التي تعمل على خلق توازن بيئي فريد. فالبكتيريا التي تشكل معظم هذا الكون وتشكل أكثر من 90% من جسم الإنسان تقدم للبشر خدمات مجانية جليلة, وهناك ما لا يعرفه العلم بعد من خدمات الكائنات المحيطة التي يشكل فقدها كارثة. فالهواء والماء والتراب كلها تعمل في خدمة الإنسان ومجانا. ويعتقد أن هناك 5 موجات عاشها العالم من الإنقراض للكائنات المحيطة كل منها امتد عبر آلاف السنين. ولكن يعتقد أن الموجة السادسة هي أخطرها إذ يعتقد أن السرعة هي عنوانها إذ أن هناك كائنات مهددة بالإنقراض في غضون 100 سنة فقط!



ويحتاج مفهوم "القرية العالمية" أو (Global Village) الذي أبتدعه منظر تكنولوجيا المعلومات (Marshall McLuhan) مع مطلع الستينيات إلى إعادة قراءة وتقييم. فالمفهوم أطلق ليعني أن العالم قد طويت المسافات به بفضل وسائل التكنولوجيا الحديثة, حيث يمكن لنا في أي مكان أو مدينة بهذا العالم أن نشاهد ما يفعله غيرنا وطرائق معيشتهم وثقافاتهم بشكل تاريخي غير مسبوق. بيد أن هذا المفهوم يفتقد للدقة بحسب هذه النظرية, فمفهوم القرية بالتعريف تعني مكان محدود حيث يعرف القاطنون بعضهم بعضا بشكل مباشر ووثيق, وهذا ليس الحال البتة في عالم سريع يقطنه أكثر من 5.4 مليار نسمة. فالحال أكثر شبها براكب الباص الذي يمر عبر نوافذ بيوت لا يعرف منها إلا ما يراه من غرف المعيشة بها وتظل غريبة ومجهولة عنه. وهذا هو عالم اليوم بتوسع مفهوم "العالمية" (Globalisation). ومن هنا ينزع البعض إلى دحض فكرة "القرية العالمية" واستبدالها بمفهوم "المدينة العالمية" أو (Globalopolis) حيث تقل الروابط الإجتماعية وتستبدل بعوامل المصلحة والتبادل التجاري المادي الذي يفرض الحواجز على الروابط الإجتماعية ويقننها, وحيث تبرز مفاهيم سيطرة التكنولوجيا ومظاهر المدنية ومشاكل المدن التي تتواصل تكنولوجيا فيما بينها بما فيها من أوجه المنفعة والشبه, بخلاف مفهوم القرية التقليدي. ومع تنامي ظاهرة العالمية مع مطلع الثمانينيات, بدأت تطفو على السطح مقولات وأطروحات تمجد المحلية في مقابل العالمية, ولكن مع عدم إغفال الأخيرة, كأطروحة "فكر عالميا ولكن تصرف محليا". والتي تعتبر من أبرز ردود الفعل للمشكلات التي بدأت تجلبها المدينة الحديثة لساكنيها مما لم تعهده التجمعات البشرية التقليدية. وللموضوع تتمة.

عن الكاتب

sociomaroc

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

المعرفة