المعرفة المعرفة

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

مشكلتي مع المجتمع المدني



عثمان بوعرفة 
باحث في سوسيولوجيا التنمية

ربما تتبادر إلى الذهن العديد من الأسئلة الماكرة معرفيا ، حول هذا العنوان الذي يعبر عن نوع من القلق الذاتي حيال إشكالية المجتمع المدني، وقد يستفزه القارئ ويطرح العديد من الأسئلة من قبيل: ما الداعي إلى طرح هذا المحور بهذه الصيغة ؟ هل يمكن أن يقدم إضافة معرفية تذكر؟ ألا يعني طرح هذا المحور نوعا من الخروج عن المألوف في الدرس السوسيولوجي؟ ، ألا يعتبر طرح هذا المحور بهذه الصيغة نوع من الاستعلاء ونوع من الذاتية المفرطة التي تريد أن تنفرد بسلطة التحليل والرأي ؟ .

تبدو هذه الأسئلة من وجهة نظرنا مشروعة معرفيا تحتاج إلى تقديم إجابات ممكنة ، لا لكونها تنهل من إرث معرفي سوسيولوجي متأصل في الذكرة السوسيولوجية للباحث ، والذي كان دائما ينتصر لهاجس السؤال ولمبدأ التحليل، ولكن هذه الأسئلة تجد ضالتها ومشروعيتها في طبيعة الموضوع ذاته، فطبيعة الأسئلة التي تطرح لا يمكن أن تفهم إلا من خلال ربطها بالموضوع المطروح، لذلك نجد من البديهي أن تطرح العديد من الأسئلة المحرجة والمقلقة ، نظرا للقلق والإشكالات التي يطرحها موضوع المجتمع المدني في سياقنا العربي الإسلامي وسياقنا المغربي.
سأنطلق في الإجابة عن هذه الأسئلة من مبدأ سوسيولوجي يعتبر بأنه لا قيمة للسوسيولوجيا ولا جدوى من الباحث السوسيولوجي بدون التسلح بروح النقد ، فإذا تخلى السوسيولوجي عن وظيفته النقدية انتهى وظيفيا، والأمر ينطبق كذلك على علم الاجتماع ذاته ، وليس المقصود بعلم الاجتماع هنا ذلك التوجه أو التيار المحافظ  ذات البعد الوظيفي والتوازني والسكوني ، بل أتحدث عن علم الاجتماع الذي تحدث عنه "آلان تورين" ذات يوم بوصفه "أداة ثورية ليست مهمتها كبح جماح النضال بل خلق التغيير" ، فالوظيفة النقدية والتفكيكية وإنتاج الأسئلة المحرجة والمقلقة هي ما تشكل جوهر وحقيقة علم الاجتماع.
لهذه الاعتبارات وغيرها وجدت نفسي محرجا أمام سرد وطرح مجمل الكتابات والدراسات والمواقف التي عالجت إشكالية المجتمع المدني ، وكأنني عبارة عن آلة صماء بدون عقل ولا روح تستهلك وتسرد وتصف وتمجد ، وكأنني أمام نظريات وأفكار لها صفة الخلود والديمومة، مع العلم أن "كل نظرية هي مجرد درجات نستريح عندها للبحث" كما قال "كلود برنار" ذات يوم ، وبالتالي كان لا بد من أن أسترجع وظيفتي النقدية والتفكيكية وأطرحها للدفاع والمرافعة والمحاججة، بعيدا عن المهادنة والخطاب السوسيولوجي البارد والمهادن .
والمشكلة الأولى مع المجتمع المدني هي مع هذا المفهوم بالضبط ،ليس كمضمون ومحتوى وإنما كتعبير اصطلاحي ، لماذا القول بهذا المفهوم وليس بمفهوم آخر؟ هل عجز مفكرونا وباحثونا ومثقفونا عن نحت مفهوم آخر قد يعوض دلالة هذا المفهوم؟ أليست مصيبتنا هي أولا وقبل كل شيء في التعاطي مع المجتمع المدني هي مصيبة مفاهيمية بالأساس؟ تتعلق بعدم قدرتنا على إيجاد مفهوم يعوض ولو اصطلاحيا مفهوم المجتمع المدني ّ، حتى يعبر عن هذا الذي يسمى مغربا ، أي وفق خصوصياته الثقافية والإقتصادية والاجتماعية والدينية، وحتى يصبح قادرا على استدماج أو استدخال مختلف الديناميات المحلية التي تكونه، لماذا لم نتساءل ذات يوم كباحثين مع التيار التداولي " والذي يعتبر بأن السياق هو الكفيل بإنتاج المعنى " ، أي أنه في الوقت الذي نشأ فيه المجتمع المدني في الغرب أنتج معاني متعددة كالحداثة والديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان... ، فهل ننتظر أن ينتج نفس المعنى في سياقنا المغربي مع أن السياق يختلف؟ ألم نستقبل هذا المفهوم كفكرة جاهزة نتيجة الاحتكاك العنيف بالاستعمار وتعمق ذلك بشكل كبير مع العولمة؟ أليس ما يشهده المجتمع المدني اليوم من ارتباك على مستوى الأدوار والوظائف وآليات الاشتغال والإستمرار، هو في جزء كبير منه نتيجة الصدمة التي تلقيناها من جراء عدم استعدادنا واستعداد تراثنا لتقبل مثل هذا المفهوم ،والتي لم نستيقظ منها لحد الآن ؟ ألا يعود عدم قدرتنا على إبداع وابتكار مفاهيم أخرى لسبب هذه الصدمة التي لم نعد نستطيع فيها أن نحدد من نحن وما ذا نريد؟ ألا يعكس ذلك أزمة إبستيمولوجية أساسا على مستوى العلوم الإنسانية مغربيا؟ أم أن الأمر له تشعبات أخرى مرتبطة بطبيعة الأنظمة السياسية وبطبيعة البنى والأنساق الاجتماعية وكذلك بطبيعة الإختيارات الأيديولوجية والسياسية لصناع القرار؟ .
لا يمكن تقديم إجابات نهائية حول مجمل هاته الأسئلة إلا من خلال إدراك جميع المستويات والأبعاد والسياقات العامة ، وذلك وفق رؤية شمولية مركبة، تعتمد في رؤيتها على "النقد المتعدد الأبعاد" بتعبير الأستاذ "مصطفى محسن"، وذلك لسبب بسيط جدا وهو أن فكرة المجتمع المدني تطورت أساسا في سياق عام وليس سياقا خاصا ومجزأ.
لذلك نرى من وجهة نظرنا المتواضعة أن مجرد استنساخ هذا المفهوم كتعبير اصطلاحي وإلصاقه بجسد المجتمع ، هو اعتراف ضمني بنمطية تاريخ المجتمعات البشرية، ونفي لإرادة البشر ودوره في هذا التاريخ والذي يؤثر فيه بأشكال مختلفة ، أي أننا عندما نستقبل اصطلاح المجتمع المدني من التجربة الغربية ، فإننا نريد من ذلك القول بأن جميع المراحل والتطورات والوقائع والفترات الزمنية، التي مرت منها المجتمعات الغربية والتي أنتجت لنا المجتمع المدني ، يجب على مجتمعاتنا أن تمر منها أو نريدها أن تمر من نفس ذلك المسار  بطريقة تعسفية ،حتى ولو كان ذلك منافيا لسنن التاريخ والحضارات ، بمعنى أنه إذا أردنا مجتمعا مدنيا قويا بنفس التجربة الغربية ، على مجتمعاتنا أن تمر من نفس التمرحلات التاريخية ، فإذا كانت المجتمعات الغربية  قد قطعت مع السلطة الدينية وخاصة سلطة الكنيسة التي كانت تتحكم في العقول والقلوب والرقاب ، فهل معنى ذلك أننا مطالبين بالقطع مع كل ما هو ديني حتى نتمكن من إنجاز تجربة مدنية كتلك التي أنجزت الغرب؟ ألا يعتبر هذا نوعا من الإنتحار الحضاري والتاريخي ، الذي ينسلخ خلاله الإنسان من ذاته ثم يعود إليها ؟ وإذا كانت كلمة المدنية في الغرب مناقضة لكلمة الدينية أو العسكرية ، فهل يجب أن تدل على نفس المعاني والدلالات التي دلت عليها في الغرب مع العلم أن السياق يختلف؟ .
يجيب الأستاذ "حسان الباهي"  في محاضراته عن مثل هذه الأطروحات، ويتساءل مستغربا، إذا كانت أوروبا  قد مرت في عملية الإتصالات من الهاتف التابث إلى الهاتف النقال ، فهل معنى ذلك أننا مطالبين بالعبور من نفس الطريق ،أم أننا بإمكاننا أن ننتقل مباشرة إلى الهاتف النقال ؟ .
يطرح إسم المجتمع المدني  بالنسبة لنا إشكالا من الصعب جدا العبور عليه بسهولة ، بحيث يطرح علامات استفهام كثيرة عن مذى عجزنا عن العثور ولو على مفهوم يعوض مفهوم المجتمع المدني ، ما عدا المحاولة المحتشمة واليتيمة للمشارقة الذين يستعملون مفهوم المجتمع الأهلي بدل المجتمع المدني . فهل معنى هذا أنه إذا أردنا أن نؤسس ونؤصل لفعل تطوعي وتضامني ومستقل ... ضرورة تسميته بالمجتمع المدني؟.
لا تقف مشكلتنا مع المجتمع المدني عند حدود التسمية وفقط ، بل يتعداه إلى مستوى المضامين والمرجعيات الفكرية التي تؤطره ، لذلك تجمع مختلف الدراسات التي صاحبت تطور مفهوم المجتمع المدني  ، على أنه جاء نتيجة التخلص من الكنيسة أو السلطة الدينية التي كانت ترى في نفسها ظل الله في الأرض ، وتلعب دور الوساطة بين الإنسان والقوة العليا التي يؤمن بها الإنسان، وبالتالي جاءت فكرة المجتمع المدني لتؤكد أن الحكم يجب أن يكون بناء على تعاقد اجتماعي بين الحاكم والمحكومين ، أي أن الحكم  للشعب وبالتالي للفرد باعتباره مواطنا حرا ،  انطلاقا من هنا وقع الفصل بين الدولة والمجتمع الطبيعي ، لذلك يمكن القول بأن فكرة المجتمع المدني  جاءت نتيجة صراع مرير بين الدولة والكنيسة كنمط ديني وتديني ذات طبيعة طقوسية كذلك ، وبالتالي يصبح معه القول بأن العامل الديني المتمثل في التمفصل بين سلطة الكنيسة والدولة  كان شرطا أساسيا ضمن شروط أخرى  التي أدت إلى إفراز المجتمع المدني ، أي أنها أدت إلى الحسم بشكل نهائي مع الظاهرة الدينية من داخل السلطة السياسية ، وهو ما سمي فيما بعد بالعلمانية ، فهل يستقيم هذا التمفصل في سياقنا المغربي؟ وهل عرفت مجتمعاتنا سلطا دينيا وأنماط من الحكم التيوقراطي كتلك التي شهدتها أوروبا؟ ألا يعني وفق هذا الطرح فرض إرادة الغير على تاريخنا والعمل على تنميطه؟.
لا يمكن تقديم إجابات عن مجمل هاته الأسئلة إلا بالركون إلى الخلفية التاريخية التي أطرت مجتمعنا، والتي لم تستطع بنيتنا الثقافية والإجتماعية أن تفرز هذه التمايزات والتمفصلات ، بل إن هذا المسار التاريخي الممتد ثقافيا إلى خارج  الحدود الترابية والجغرافية ، لم يستطع أن يفرز لنا بنيات واضحة المعالم والملامح سواء على مستوى نخبه المحلية والوطنية أو على مستوى طبيعته أنساقه السياسية ،أو بنيته الثقافية أو الدينية ، زد على ذلك أنماطه الاقتصادية ، كل هذا التعدد والتنوع لخصه "بول باسكون" تحت إسم "المجتمع المركب"، والذي يظهر إلى حد الآن  ككل وكمنظومة مركبة غير قابلة للتجزيئ، رغم سياسة التحديث وبناء المؤسسات والتجديد على مستوى آليات التدبير والتسيير التي حدثت   ، إلا أن كل ذلك لم يمنع من بروز هذه الطبيعة المركبة والمزيجة بين التقليدي والحديث، وبالتالي يصعب معه القول بهوية واحدة وبطبيعة  واحدة للمجتمع المغربي، بل إن الطبيعة التركيبية تمتد لتشمل كذلك الإنسان ليصبح إنسانا مغربيا مركبا .
كيف يمكن تحديد الحدود وفصل مكونات المجتمع المغربي وفق وظائف وأدوار واضحة لبنياته ومؤسساته  ولنخبه في ظل هذه المعمعة ؟ ما هي المعايير التي يمكن الاعتماد عليها في هذا الفصل؟ وهل نستطيع أن نحدد الآن مغربيا متى ينتهي الإقتصادي ليبدأ السياسي ، ومتى يبدأ المدني وينتهي العسكري، ومتى يبدأ الديني لينتهي السياسي ، ومتى ينتهي المجال العام ليبدأ المجال الخاص؟ .
يبدو أنه من الصعب تفكيك هذا الكل ، فكل بنية أو شخصية مغربية تقدم نفسها إما كمالكة لهذا الكل سواء المادي أو الرمزي ، أو كنتيجة أو إفراز تركيبي لهذا الكل ، فلا يمكن للإنسان المغربي أن يقدم نفسه كفرد بل كعضو في جماعة ،  ليختفي معه الضمير الفردي ويبرز الضمير الجمعي ، وبالتالي ذلك الفصل الذي ثم في الغرب بين السلطة الدينية و السلطة السياسية  لم يحدث عندنا إلى الآن ، الشيء الذي يدعونا إلى طرح السؤال التالي: هل نحن مطالبون إذا أردنا التأسيس لمجتمع مدني بالعمل على فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية كما حدث هناك؟ ألا يمكن الجمع بينهما وفق خصوصية معينة من اجل إفراز هذا المجتمع المدني، ما دام أن كلمة المدنية جاءت في ظل مؤسسة دينية لم نسمع عنها في مجتمعنا أو ثقافتنا ؟ ثم إن السير في هذا الفصل ألا يعني نوع من الجهل التاريخي بحقيقة ودور العامل الديني والمؤسسات الدينية في تشكيل ملامح وهوية هذا المجتمع؟.
إن أي محاولة للعمل على هذا الفصل كما حدث في الغرب هو محاولة لفصل الذات عن ذاتها وعن تاريخها ، هذا التاريخ  الذي غالبا ما يعتبر بالنسبة للإنسان المغربي مصدر إلهام خصوصا في علاقته الروحية مع المؤسسات الدينية والظاهرة الدينية عموما ، الشيء الذي يصعب معه قياس ذلك مع التجربة الغربية التي عانت الويلات مع سلطة الكنيسة كسلط دينية ، هنا تكمن صعوبة الفصل في نظرنا ، ويصعب معها بالتالي القيام بمقارنات وإسقاطات، ففي الوقت الذي عانا الإنسان الغربي من السلطة الدينية باعتبارها قاهرة وناهبة للثروة ومكبلة للحريات ومستبدة في التفرد بالسلطات ، لا يجد الإنسان المغربي أي حرج في تمجيد وتقديس المؤسسات الدينية والشخصيات الدينية والثقافة الدينية كمصدر اعتزاز وافتخار، الأمر يقتضي إذن إدراك البعد التاريخي للظاهرة الدينية في كل من السياقين ، ومن ثم إدراك بعدها الوظيفي ضمن هذا السياق ، فالوظيفة التي لعبتها الظاهرة الدينية  في السياق المغربي كانت وظيفة تقدمية خاصة على مستوى رفض كل أشكال الهيمنة والاستعمار، أما وظيفة الظاهرة الدينية في السياق الغربي فقد لعبت أدوارا سلبية ورجعية.
لذلك فالقول بهذا الفصل في التجربة المغربية  إذا أردنا أن نحقق مجتمعا مدنيا في نظرنا ، لا يعدو أن يكون نوع من المجازفة النظرية ونوع من الجلد الذاتي الغير مبرر ربما حتى أخلاقيا ، فما بالنا أن يكون مبررا علميا وموضوعيا.
أما الفصل الآخر والذي حدث في الغرب وهو أن كلمة المدنية جاءت كنقيضة لكلمة العسكرية، وذلك في إطار تطور الدولة المدنية الحديثة، بمعنى أن الرجل الذي يجب أن يحكم لا يجب أن تكون له صفة دينية أو عسكرية ، وبالتالي ثم التعامل بنفس الشيء مع المجتمع المدني ، فهل يستقيم هذا الطرح على مجتمعنا المغربي؟ .
لا يمكن أن نفهم السلطة العسكرية إلا ضمن ذلك التركيب الذي أشرنا إليه سابقا ، فلطالما كان الرجل العسكري يستمد شرعيته من السلطة السياسة ومن الشرعية الدينية ، أو يجمهما معا ، أو يلجأ إليهما معا  لشرعنة استعمال العنف المشروع وغير المشروع ، كما أن السلطة العسكرية تبقى لها الكلمة العليا خصوصا في المجتمعات  التي لم تبني بعد نظامها الديمقراطي كمجتمعنا ، حيث تسود ما يعرف بالأنظمة الشمولية التي تحتكر جميع وسائل الانتاج  والمؤسسات ، وتعوض شرعيتها السياسية المفقودة عن طريق احتكار العنف وجميع أنواع التسلط ، لذلك يصعب معها الفصل بين السلطة العسكرية والسلط الأخرى سواء كانت مادية أو رمزية ، لذلك لا غرابة أن نجد اليوم بعض الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني تتلقى التمويل المباشر من رجال العسكر والجنرالات بدون أي حرج ، وبالتالي تفقد هذه الجمعيات صفة المدنية والاستقلالية والتطوعية  ،لأنها تخضع لأجندة وحسابات ومصالح من يمولونها ، وليس لخدمة الشأن العام .
لذلك من الصعب جدا إن لم نقل استحالة تحقيق هذا الفصل الذي ثم في الغرب ، لأن الأمر لا يتعلق بأشخاص وفقط وإنما بنظام سياسي يحتكر السلطة العسكرية ، وبالتالي تتحول السلطة العسكرية من وظيفتها الأساسية وهي حماية الشعب والحدود من الأعداء الخارجيين ، إلى حماية أشخاص بعينهم فتتعرض الدولة بأكملها لعملية الشخصنة ،أي اختصار كل وظائف وأجهزة الدولة في شخص واحد وهو ما نسميه بالإستبداد، وبالتالي يصعب معها الفصل بين العسكري والمدني كما حدث في التجربة الغربية ،لأن أركان الدولة كلها قائمة على هذه السلطة التي تسمى بأم السلطات، وكل هذا يدعونا إلى القول بأن المجتمع المدني لا يمكن أن يخرج عن هذا النسق العسكري ، بل يتم توظيفه كآلية لضبط المجتمع وكسب الشرعية المفقودة ديمقراطيا، الشيء الذي يدعونا للتساؤل عن مذى إمكانية الحديث عن مجتمع مدني في ظل وجود نمط سياسي كهذا الذي موجود بالمغرب ، أو بعبارة أخرى هل نحن مطالبين بالتأسيس لمجتمع مدني مغربي وفق نفس النمط السياسي الغربي الذي برز فيه المفهوم ، أم أن الأمر بخلاف ذلك ؟.
لا يمكن الحديث عن المجتمع المدني  كتنظيمات ومؤسسات تلعب أدوارا في المشهد المجتمعي برمته، بدون ربطه بطبيعة النسق السياسي ، أي ذلك النسق الذي يعتبره البعض بمثابة منافس للفعل المدني ، فالدولة بطبيعتها التحكمية لا يمكن أن تسمح لمن يتقاسمها نفس المهام والأدوار بدون أن تلجأ إلى مختلف الطرق والآليات سواء العنيفة أو السلمية لكي تكبح جماحها ، هذا الأمر لا يعني أن العلاقة مع الدولة يجب أن تكون صراعية طبيعيا ، بل إن هذا الصراع تحدده قواعد اللعب في المشهد المجتمعي ووفق حالة من التنافس حول من الأقدر على استقطاب المجتمع، لذلك ففعالية وقوة المجتمع المدني  في نظرنا ، تقاس بمذى شرعية وقوة الدولة ، والقوة هنا لا تقاس دائما بآليات القمع وإنما بقوة المؤسسات وشرعية السلطة التي يجب أن تتأسس على قواعد ومبادئ ديمقراطية ، وبالتالي قوة الدولة يساوي قوة المجتمع المدني ، فالدولة الديمقراطية ليست لديها ما تخاف عليه من حيث أنها ديمقراطية ، لأن غياب الديمقراطية والشرعية هو الذي يولد الخوف من المؤسسات المدنية ، وبالتالي يمكن إدراك أن الدولة الديمقراطية هنا هي الدولة التي تحترم مهامها ووظائفها وحدودها الدستورية ، الشيء الذي يدعوها إلى احترام وظائف وحدود المؤسسات الأخرى ، بهذا المعنى يصبح المجتمع المدني قادر على إنتاج نفسه خارج حدود الدولة ، فهل يصدق هذا القول مع طبيعة السلطة السياسية في المغرب؟ .
لا يمكننا الإجابة عن هذا السؤال إلا من خلال الإجابة عن سؤال مركزي آخر وهو من يحكم في المغرب؟ هل هذه المؤسسات التي تبدو حديثة في شكلها المادي، أم أن الأمر يتعلق بمؤسسات تقليدية وخفية لا زالت تفعل فعلها في المشهد العام ؟ مع الإشارة طبعا إلى أن الدولة الديمقراطية تقطع مع كل الأنساق والبنيات التقليدية في الحكم والتي تنتفي معها كل القيم الديمقراطية، لذلك فإن المتأمل في العديد من القرارات السيادية  والمشاريع التنموية الكبرى ، يجد أن البنية السياسية التقليدية لا زالت هي المتحكمة ، أي البنية المخزنية ، فالمخزن كتعبير عن سلطة سياسية لا زال ينهل ويستمد مشروعيته من كل الروابط والقنوات التقليدية ، والتي تكون قائمة على استغلال المقدس والشرف والنسب والإنتماء المجالي والقبلي، وكل هذه الروابط التقليدية تقطع أساسا مع مظاهر ومبادئ الدولة الحديثة التي يكون فيها الإنتماء للوطن وليس لتلك الروابط، وفق هذا المعنى يصبح القول بوجود المجتمع المدني بمعناه الغربي أكذوبة لا تستند على أسس واقعية، لأن وجود مجتمع مدني بتلك الصفات يجب أن تتوفر فيه شرطان :
-الشرط الأول: وهو القطع مع كل الروابط والجماعات العضوية ، التي لا يكون للفرد حرية الانتماء إليها ، لأنه يولد فيها طبيعيا ، وبالتالي فإن المجتمع المدني يفترض مواطنا حرا ومستقلا ، والأمر ينطبق كذلك على الدولة التي يجب أن تستند في حكمها على إرادة شعبية ، وليس على شرعية قائمة على الانتماء للنسب والقرابة والعائلة والقبيل والعشيرة ...
- الشرط الثاني :  هو ضرورة تحديد المجال العام والمجال والخاص ، أي المجال الذي تتدخل فيه الدولة وتعمل على تدبيره ، والمجال الذي يكون فيه للفرد حرية التصرف وفق ما يمليه عليه ضميره ، وهو ما تفتقده الدولة لحد الآن ، بحيث تعمل على الهيمنة والسيطرة على كل شيء ، وفق مصالح يحددها مالكي وسائل الإنتاج والإكراه في المجتمع ، وهو ما يعني ضمنيا غياب الدولة الديمقراطية كشرط أساسي لبروز المجتمع المدني.
لهذا وانطلاقا مما تقدم يمكن القول بأن طبيعة السلطة السياسية في المغرب ، لا تسمح ببروز المجتمع المدني ذات المواصفات الغربية ، نظرا لغياب الشروط السياسية والإجتماعية  التي كانت وراء نشوئه في الغرب، وبالتالي علينا ربما البحث أنماط أخرى من التنظيمات المدنية التي قد تستجيب للخصوصيات السياسية والثقافية والاجتماعية لمجتمعنا.
أما مشكلتي الأخرى مع المجتمع المدني ودائما مع السياق الذي برز فيه في الغرب فهو متعلق أساسا ، بأن تطور المجتمع المدني تزامن مع بروز النظام الرأسمالي ، الشيء الذي يطرح عدة أسئلة من بينها : هل يعتبر النظام الرأسمالي شرطا ضروريا لبروز المجتمع المدني ؟ هل من الضروري أن تفرز لنا التطورات المعاصرة نظاما رأسماليا حتى نتحدث عن المجتمع المدني ؟ لنفترض جدلا أن هذه التحولات لم تفرض لنا نظاما اقتصاديا رأسماليا ، ألا يمكن نؤسس لمجتمع مدني؟ وإذا كان النظام الرأسمالي نفسه هو نتيجة للثورات العلمية والصناعية والسياسية التي حدثت في أوربا، ألا يمكن أو ألم يكن بالإمكان نشوء النظام الرأسمالي خارج هذه الثورات؟ وإذا سلمنا جدلا بضرورة شرط النظام الرأسمالي لوجود المجتمع المدني ، هل نحن نتوفر على نظام اقتصادي رأسمالي أصلا حتى نستورد مفهوم المجتمع المدني؟ .
كل هذه الأسئلة تشكل لنا مشكلا وقلقا عندما نحاول التأصيل للمجتمع المدني وربطه بالسياقات التاريخية التي نشأ فيها ، لأننا نريد بذلك إجبار التاريخ على أن يصبح ذاتا واحدة ، أي تنتفي معها الذوات المتعددة والتنوعات والإختلافات الثقافية  التي تميزنا عن بني البشر ، لكن هناك فرق شاسع بين من تفرض عليه هذه الرؤية النمطية، وبين من يدافع عنها كما لو أنه صانعها وقادر على حسمها، ولذلك يصبح من الضروري في نظرنا العمل بمبدأ "المهاتما غاندي" والذي قال ذات يوم " أريد لكل  ثقافات الأرض أن تهب عند بيتي ،لكنني أرفض أن تسلبني واحدة منها". 
يبدو من الصعب جدا إدراك مفهوم المجتمع المدني أو محاولة الوصول إلى إدراكه، بدون استحضار العديد من السياقات التاريخية المتشابكة والمعقدة ، والتي تفضي في الأخير إلى أننا فعلا نعاني أزمة إبستيمولوجية ونظرية في الوصول إلى ماهية المجتمع المدني وحدوده وتداخلاته ومساراته، فالأزمة لا تقف في نظرنا عند الحدود النظرية ، بل تتعدى ذلك إلى المستوى العملي ، فالتداخل الحاصل نظريا على مستوى المؤسسات المشكلة للمجتمع المدني ، تفرز لنا عمليا ارتباكا على مستوى تحديد المهام والوظائف والادوار والحدود الفاصلة بين مختلف الهيئات والمؤسسات المجتمعية  وفي مقدمتها مؤسسات المجتمع المدني.
كما أن محاولة الإدراك والامساك بهذه السياقات لا يبرر التماهي معها إلى درجة السذاجة الفكرية ، بل لا بد من التعامل معها بنوع من اليقظة والحذر المعرفيين ، وإخضاعها إلى التفكيك والنقد والفحص العلمي المتواصل، والنقد هنا ليس هدفا في حد ذاته ، بل النقد الذي سيوصلنا إلى تأكيد الأطروحة التداولية التي تعتبر " بأن السياق هو الكفيل بإنتاج المعنى"، فالوصول إلى هذه الأطروحة يعني أننا قطعنا أشواطا كبيرة -في نظرنا- نحو الوصول إلى ما أسميه "بإتباث الذات داخل الآخر" وبالتالي تفنيد الطرح الذي "يعتبر بأن الآخر يسكن فينا"،  فهذا السكون يجب أن يكون متبادلا، والسكون هنا ليس بمعناه السيكولوجي بل بمعناه التواجد من داخل السلم الحضاري ، ليس وجودا تابعا ومسلوبا ،بل وجودا صانعا ومنفتحا ومؤثرا، الأمر يقتضي إذن البحث عن هذا التواجد ليس بنوع من الإقطاعية الفكرانية كما سماها "حسن حنفي" ذات يوم، بل وجودا ينبني على أننا مختلفين ولسنا متخلفين ، قادرين ولسنا عاجزين ، مبدعين ولسنا مقلدين ...
كما أن إدراك أهمية  المجتمع المدني في مغرب اليوم على مستوى مشاركته تأثيره في صناعة القرار المحلي ، لا يعني أن الترسانة القانونية والتنظيمة كقوانين جافة كافية، بل لا بد من بعث فيها روح الحياة ، عن طريق بعث روح الفعل المدني في العقل المدني ، والذي يجب أن يقتنع بأن العمل المدني ليس هو الولاء إلى درجة القداسة الروحية إلى القبيلة والعشيرة والأسرة والأيديولوجيا والحزب ...، بل هو الولاء للإنسان كقيمة في حد ذاتها ، لذلك وجب مساءلة العقل المدني اليوم كصانع ومقرر وكمستفيد ومستهلك وليس القوانين التنظيمية فقط.


عن الكاتب

sociomaroc

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

المعرفة