عثمان بوعرفة : باحث في علم الاجتماع (
المغرب)
بداية
لابد من التأكيد على أن الخوض في مثل هذه القضايا يشكل بؤرة توتر وسجال لا ينتهي
في أوساط الباحثين الأكادميين ؛ فعلى طول الخريطة السوسيولوجية في المغرب هناك
نقاش وسجال لا ينتهي حول ما أثارته الدراسات والأبحاث الكولونيالية ؛ إلا أنه من
ومع ذلك فمن حقنا أن ندافع على أن أي محاولة ترمي إلى الفهم والتفسير يجب أن
تصاحبها عملية النقد والمراجعة ؛ خصوصا عندما يتعلق الأمر بموضوع يرتبط ارتباطا
كبيرا بذواتنا وهويتنا وتاريخنا الفردي والجماعي ؛ لكن ضرورة النقد لا تبرر ولا
تشفع لنا الخروج عن المألوف في الخطاب
الأكاديمي ؛ أي ذلك الخطاب الذي ينتصر لمبدأ الحياد الموضوعي كمطلب تفرضه علينا
الضرورة العلمية باعتباره غير قابل للمساومة أو التنازل.
كما
نود أن نشير هنا إلى أن إمكانية الحديث عن سوسيولوجيا مغربية ترتهن لما هو محلي في
خطابها وممارستها كمطلب ضروري كان تاريخيا وأصبح استراتيجيا ؛ يستلزم ممارسة عملية
التفكير النقدي الذي ينطلق من الفائت ويؤسس للمستقبل ؛ هذا التفكير النقدي ينبغي
أن يكون مسلحا بخلفية معرفية وأطر مفاهيمية وأدوات منهجية ؛ وفي سبيل الوصول إلى
إجابة محتملة عن سؤال إمكانية تأسيس سوسيولوجيا مغربية ؛ إرتأينا أن نقوم بقراءة
نقدية كخطوة أولية تأسيسية للإجابة عن هذا السؤال الشائك ؛ وقد اخترنا نموذجين
يمثلان في رأينا علامة بارزة في تاريخ السوسيولوجيا الكولونيالية وهما :
"روبير مونتاني" و"جاك بيرك" .
1-
قراءة نقدية في أعمال روبير مونتاني .
إن
ما نلاحظه في إنتاج روبير مونتاني هو أنه يريد أن يدرس بعض البنيات المجتمعية
للمجتمع المغربي وهذا أمر يتعلق بعلم الاجتماع ؛ ولكن حيث أن معرفة طبيعة هذه
البنيات تتوقف على معرفة تاريخها فإن هناك بالضرورة عودة إلى علم التاريخ ؛
وسنحاول هنا أن نتعرف على أهم المفاهيم التي استخدمها هذا الباحث من دراسته للواقع
المجتمعي المغربي وتعامل بها مع هذا الواقع ؛ وخاصة المفاهيم العامة التي نجدها في كتابه "
التطور الحديث للبلاد العربية " .
إن
أول هذه المفاهيم المتعلقة بطبيعة الاستعمار هو مفهوم " الحماية" وهو
مفهوم مستعار من الدراسات القانونية الإستعمارية المتعلقة بنفس الظاهرة . إن هذا
المفهوم يلعب على صعيد الأيديولوجيا الدور الذي يجعل ظاهرة الاستعمار مقبولة لا
عند من هو محل لها فحسب ؛ بل عند من يمارسها أيضا ؛ لقد كان المستعمر يريد ان يشعر
نفسه بهذا المفهوم أنه يمارس في البلاد الذي يستعمرها نقلا لآثار المدنية الغربية
الحديثة .
هذا
المفهوم لا يمنع مع ذلك روبير مونتاني عن النظر إلى ظاهرة الاستعمار بوصفها نوعا
من الاصطدام بين حضارتين مختلفتين؛ وعن البحث عن التغير الإجتماعي الطارئ في
البلاد التي خضعت لهذه الظاهرة ؛ يقول مونتاني " لقد تركزت الدراسات العامة
منذ سنوات حول هذا الخلل الذي يصيب الحياة التقليدية للشعوب عندما تفرض عليها
الإمبريالية الاستعمارية فجأة علاقات مع الخارج[1] ".
وهكذا
فإن مفاهيم مثل " الحماية " و"التمدين" تمنع أي تحليل ينظر
إلى ظاهرة الاستعمار من خلالها أن يدرك حقيقة علاقة هذه الظاهرة بكل مظاهر
الإنفصام التي تلاحظ في المجتمعات التي كنت محلا لتلك الظاهرة . فمثل هذه المفاهيم
الأيديولوجية هي التي تحتل في الواقع المكان النظري الذي يمكن أن تحتله مفاهيم
علمية.
لننتقل
الآن من المفاهيم العامة إلى المفاهيم الأقل عمومية وهي المتعلقة بالبنية العامة
للمجتمع المغربي ؛ وهناك في هذا الجانب ثلاث مؤلفات لروبير مونتاني ؛ يتعرض فيها
لتكوين المجتمع المغربي وتطوره خلال الفترة الإستعمارية وهي : " البربر
والمخزن في جنوب المغرب " وهو كتاب يتعرض فيه لعلاقة القبائل البربرية
بالمخزن (السلطة المركزية ) ثم كتاب " ثورة في المغرب" ويعرض فيه الباحث
للسياسة الاستعمارية ؛ ثم كتاب " نشأة البروليتاريا المغربية" وهو كتاب
جماعي يبحث في نشأة البروليتاريا المغربية ؛ بالبحث عن العوامل التي ساهمت في تلك
النشأة ؛ وفي المشكلات الاقتصادية والمجتمعية – السياسة التي نجمت عنها وارتبطت
بها.
يرى
روبير مونتاني أن المجتمع المغربي يتكون من ثلاث عناصر متداخلة ومتفاعلة فيما
بينها وهي : القبيلة ؛والمدينة؛ والمخزن ؛ وتتخذ العلاقة بين هذه المكونات الثلاثة
صورة الصراع من أجل الهيمنة ؛ إذ أن كل عنصر من هذه العناصر يسعى إلى أن يكون محور
البنية المشكلة لها ؛ وهذا التصور لمونتاني يتأكد من خلال تصوره لتاريخ المغرب
المعاصر وللشخصيات الثلاثة التي لعبت دورا رئيسيا في هذا التاريخ ؛ إذ يذكر لنا
محمد بن عبد الكريم الخطابي والماريشال ليوطي؛ والملك محمد بن يوسف ؛ ويبدو أن كل
شخصية تمثل أحد المكونات المشكلة للمجتمع المغربي ؛ فالخطابي يرمز إلى عنصر
القبيلة وليوطي يرمز إلى المدينة ؛ وأما محمد بن يوسف فيرمز إلى تطور علاقة السلطة
المركزية بكل من السلطة الاستعمارية والحركة الوطنية .
ونريد
هنا أن نتساءل عن الأسباب التي دفعت بروبير مونتاني إلى الإهتمام بهذا التناقض
والتركيز عليه بوصفه أساس دينامية المجتمع المغربي وخاصة فيما يتعلق بنظامه
السياسي.
والواقع
أن هذه الأسباب ترجع إلى الأهداف العملية للسياسة الإستعمارية ؛ فقد كانت هذه
السياسة تسعى إلى البحث عن العوامل التي يمكنها الإعتماد عليها لضمان هيمنتها على
المجتمع المغربي ؛ وقد كانت السياسة الإستعمارية مترددة بين فرضيتين أساسييتين :
فقد بدأت بالاتجاه نحو تقوية سلطة المخزن ؛ لذلك فإن نفاذ القوة الإستعمارية إلى
نواحي البلاد المختلفة وفرض السيطرة عليها ؛ أمر قد ساعد على تغيير العلاقة
الطبيعية بين سلطة المخزن والقبائل ؛ وسيتجه الإستعمار في المرحلة الثانية إلى
تغيير موقفه من السلطة المركزية ؛ وذلك بسبب تحالف السلطان محمد بن يوسف مع الحركة
الوطنية ومناصرته لها في مطالبها. لقد مالت الإدارة الإستعمارية عندئذ إلى البحث
عن نقطة جديدة للإرتكاز كانت هذه المرة هي القبائل البربرية ؛ فهو يتساءل عما إذا
لم يكن من الممكن نقل هذه القبائل الأطلسية المستعصية على سلطة المخزن وذات
التقاليد ما قبل الإسلامية إلى مبادئ القانون المدني الأوربي ؛ وذلك بالإعتماد على
مؤسساتها التي تعود إلى ما قبل الإسلام ؛ فهذه الطريقة هي التي تؤدي في نظر
مونتاني إلى إدماج هذه القبائل بصورة مباشرة في الديمقراطية الغربية ؛ وذلك لأننا
بهذه الكيفية سنجعل هذه القبائل تقتصد مرحلة الإسلام الوسيطي[2] .
وهكذا
نجد أن تحليل علاقة القبائل بالمخزن يؤدي عند مونتاني إلى بروز مفهومين أساسسين :
مفهوم الصراع وهو الذي يرمز إلى طبيعة هذه العلاقة ومفهوم المجتمع الديمقراطي الذي
يعود تقليده إلى ما قبل الإسلام ؛ وهو الذي يفسر ذلك الصراع .
إلا
أن بروز هاذين المفهومين لدى الباحث يعكس رؤية أيديولوجية أكثر مما يعكس مطابقتهما
للواقع ؛ بحيث نجد أن مفهوم الصراع لا يعكس سيرورة المجتمع بقدر ما يعكس الرغبة في
إتباث صورة معينة للصراع ؛ لذلك فإن التحليل الذي يقوم به روبير مونتاني والذي
يعكس توجهه الأيديولوجي يؤدي به إلى استغلال مفهوم إجرائي في التحليلات الإجتماعية
؛ لكي يحول إجرائيته من كونها إجرائية علمية إلى كونها إجرائية أيديولوجية.
أما
المفهوم الثاني فهو مفهوم الديمقراطية ؛ والذي يتم إسقاطه على الواقع المغربي
لتبرير غايات أيديولوجية بالنسبة للعلوم الاجتماعية الإستعمارية ؛ ولإضفاء صفة
المشروعية على خطوات عملية كانت السلطة الإستعمارية تعتزم الإقدام عليها ؛ إنه مثل
سابقيه لا يعكس واقعا حقيقيا ؛ كما أنه لا يعبر عن واقع مطابق له ؛ إن إجرائيته في
التحليل منحصرة في كونه يستجيب لبنية تفكير أيديولوجي ؛ ثم إن ما يسميه روبير مونتاني ب "
الجمهوريات البربرية " التي تسود فيها قيم التعاون والتضامن والديمقراطية هي صورة مزيفة ؛ حيث تجمع أغلب الدراسات
السوسيولوجية والتاريخية ما بعد المرحلة الكولونيالية على أننا لا نكاد نعثر على
هذه القيم خارج الكتابات الكولونيالية ؛ ونشير هنا على سبيل المثال إلى كتابات
فاطمة المرنيسي وعبد الله حمودي وريمي لوفو وعبد الله العروي وغيرهم.[3]
لقد
تعامل روبير مونتاني مع القبيلة كذلك المنقب مع الحفريات التي لها ارتباط مع
الماضي الغابر وتوصل إلى معطيات متناقضة مثل التعارض التاريخي بين العرب والبربر (
ونشير هنا إلى أن كتابه المعنون ب"البربر والمخزن في جنوب المغرب " قد
ترافق إصداره زمنيا مع صدور الظهير البربري أي سنة 1930) بين المستقرين والرحل ؛
بين الشرع والعرف وبين ما سماه بلاد المخزن وبلاد السيبة ؛ إلا أن هذه الخلاصات والنتائج تعرضت لنقد شديد من
قبل جاك بيرك وخاصة من أطروحة التعارض بين الشرع والعرف ؛ حيث يرى جاك بيرك أن هذه
العلاقة تتغير بتغير المناطق لأن هناك تداخل وانسجام وأنه لا يوجد انفصال بين
المدشر القبلي (سكساوة) والمدينة (فاس ) بين الفلاح المستقر والفلاح الرحال.
غير
أن الأهداف الأيديولوجية للتحليل الإجتماعي الذي قام به روبير مونتاني ستتضح جليا
عندما ندرس الآفاق التي يرسمها مونتاني لتطور المجتمع المغربي ؛ وفي نظره فإن هذه
الأهداف تنحصر في حلول ثلاثة :
-
الحل الأول : إدماج المغرب في الحضارة الغربية وذللك بالإعتماد على الأقلية
اليهودية من جهة ؛ والعنصر البربري من جهة ثانية ؛ وذلك لأن البرابرة كانوا دائما
ضد التشريع القرآني ؛ إلا أن هذا الحل أتبث فشله نظرا لفشل الأبحاث النظرية ؛
ولذلك نجد كيف أن هذا التحليل كان قاصرا وفشل في فهم ثورة عبد الكريم الخطابي في
منطقة الريف ؛ حيث ثم تفسيرها بكونها نتاج لذلك الصراع القديم بين المخزن والقبائل
؛ لأن عبد الكريم الخطابي كان يمثل العنصر القديم للقبيلة ؛ غير أن متابعة مسيرة
هذه الثورة المجتمعية السياسية يبين اتصال رائدها بالبلاد العربية وربطه الاتصال
بالحركات الموجودة فيها ؛ ودعوته إلى توحيد وتنسيق العمل من أجل القضاء على
الظاهرة الإستعمارية .
أما
الفشل الثاني لروبير مونتاني فهو عدم فهمه لعلاقة القبائل البربرية بتكوين المجتمع
المغربي؛ حيث كان يعتبر مونتاني بأن هذه العلاقة هي علاقة صراع وأن القبائل توجد
في حالة تعارض مع السلطة المركزية ؛ حيث كانت تهدف السلطة الإستعمارية إلى استقلال
القبائل عن السلطة المركزية ؛ لكنها باءت بالفشل ؛ لان القبائل كانت ضد هذه
السياسة ؛ والعامل الديني الذي كان التحليل الإجتماعي الإستعماري يجعله أساسا
للتعارض قد أدى دورا معاكسا ؛ حيث عملت القوى الوطنية في علاقتها مع القبائل على
أساس العامل الديني الذي أصبح في مواجهة السياسة الاستعمارية وأصبح عاملا موحدا لا
أساس للتعارض .
-
الحل الثاني : وهو اقتراح يرفضه روبير مونتاني لأنه لا يوافق في نظره الآفاق التي
ينبغي أن يسير فيها المغرب من أجل تطوره كدولة حديثة ؛ وهو اقتراح الحركة الوطنية
المغربية التي كانت تدعو إلى استقلال المغرب ؛ وكانت ترى أن ذلك هوالسبيل الوحيد
لتطوره كدولة ؛ فهذه الحركة الوطنية توصف من قبل روبير مونتاني بكونه وطنية ضيقة ؛
لانها تتبنى في نظر مونتاني مفهوما ضيقا للأمة يجعلها مرتبطة بالعناصر الإسلامية
ومتأثرة بآراء ومواقف الحركة القومية العربية ؛ الشيء الذي يجعل هذا المفهوم
متجاوزا وغير متطابق مع التطور الإقتصادي الحديث للقارة الإفريقية .
وعندما
يرفض مونتاني الإقتراح الثاني ؛ يحاول أن يعطي اقتراحا ثالثا يرسم من خلاله الآفاق
الممكنة للمجتمع المغربي.
-
الحل الثالث : التأليف والجمع بين العناصر الفرنسية والعناصر المغربية بين العربية
الإسلامية وغير العربية أو غير الإسلامية ؛ بحيث يمكن التعايش داخل مجتمع
واحد وهو ما تحقق في الجزائر حسب مونتاني
؛ وقد فشل هذا الحل لأنه لم يكن قادرا على فهم عميق لديناميات المجتمع المغربي ؛
لأن التعارض كان بين سياسة السلطة الإستعمارية وبين هوية الشعب الذي هو موضع لها
.
2-
قراءة نقدية في أعمال جاك بيرك.
يعتبر
جاك بيرك من الباحثين الكبار الذين انشغلوا كثيرا بالمسألة المغربية والمغاربية
المعقدة ؛ فالرجل راكم أبحاث ودراسات عديدة سواء في المرحلة الإستعمارية أو بعدها
؛ إن أهم ما يميز أعمال جاك بيرك هي صبغنها التركيبية خاصة بعد أن أنجز عمله الضخم
المعنون ب " البنيات الاجتماعية للأطلس الكبير " والذي ولج به إلى
"كوليج دوفرانس " (1955) والذي سيقطع فيه بعد ذلك من توجه السوسيولوجيا
الكولونيالية وسيعمد على نقدها.
وقد
توزعت أعمال جاك بيرك بين علم الإجتماع وعلم الاجتماع السياسي (70عملا) والتاريخ
الإجتماعي (43عملا) والقانون وعلم الإجتماع القاموني (17عملا) والتاريخ (35) لتبلغ
في المجموع 165 عمل فكري تشهد على غنى وتنوع إنتاج جاك بيرك ؛ وبذلك يكون من
العلماء والباحثين الفرنسيين القلائل الذين عمدوا إلى إدخال طرق ورؤى جديدة في
دراسة المنطقة المغاربية[4].
إلا
أن أي محاولة لنقد أعمال جاك بيرك خاصة المتعلقة بخلفياتها الأيديولوجية والسياسية
؛ يتوجب عليها أن تراعي التمرحلات التي عاشها جاك بيرك في حياته والتي انعكست بشكل
أو بآخر على أعماله – إنصافا للرجل وفقط- ؛ ويمكن هنا أن نقتبس التقسيم الذي أقامه
عبد الرحيم عدناوي فيما يتعلق بأعمال جاك بيرك على مستوى التأطير الزمني والفكري
ضمن ثلاث مراحل:
- المرحلة الأولى : (1946-
1935) لا تتميز كتابات بيرك ضمن هذه المرحلة عن باقي السوسيولوجيا الكولونيالية ؛
ذلك أنها تعاصرت مع فترة مركزه كموظف مخلص لدى سلطات الحماية .
- المرحلة الثانية :
(1955- 1947) توقف بيرك في هذه الفترة عن التفكير في قضية تحديث المغرب ولم يعد
يقترح أية إصلاحات بعد أن ثم تنقيله إلى منطقة الأطلس الكبير بصفته مراقبا مدنيا ؛
لقد أصبح يكتفي برصد الواقع والعمل على تحليل الجوانب المختلفة للنظام التقليدي
وهو في احتكاك مع الحضارة الغربية .
- المرحلة الثالثة : ( من سنة 1953 إلى غاية وفاته ) دشن بيرك هذه
المرحلة بتحرير مؤلفه الضخم "البنيات الاجتماعية للأطلس الكبير" ( سنة
1955) وهنا سيقطع بيرك مع توجه السوسيولوجيا الكولونيالية وسيعمد بالتالي على
نقدها وفحص مختلف أحكام القيمة التي تحفل بها[5] .
إن الهدف من إدراك هذه
المراحل هو معرفة كيفية مساءلة ونقد أعمال ودراسات جاك بيرك بالطريقة التي تسمح
لنا من بناء مواقف نقدية علمية في سبيل تقويمها وتصويبها ( أي دراسات جاك بيرك )
نحو بناء سوسيولوجية مغربية بعيدا عن المزايدات الأيديولوجية والتعصبات المذهبية
التي قد نجدها في تصورات منتقدي الدراسات والأبحاث الكولونيالية .
لقد لا حظت الباحثة
"فاني كولونا" أنه من السذاجة أن نبحث عن النزعة الاستعمارية داخل الفكر
الاستعماري ؛ لأن الأمر عبارة عن تحصيل حاصل ؛ بل العكس هو الذي كان سيفاجئنا ؛
وتساءلت "أليست السذاجة الحقيقية هي التفكير في وجود معرفة بلا سلطة أو علم
بلا مصالح ".
تبدو هذه القولة بالنسبة
لنا مدخلا للفهم وللغوص في أعماق الدراسات والأبحاث الكولونيالية وخاصة جاك بيرك
الذي يعتبر أحد روادها ؛ والذي قال ذات يوم " لقد فرضت الإمبريالية على
العالم طريقة وعي في الوقت التي كانت تفرض فيه شكل الإدارة". ويتضح جليا من
خلال هذه القولة أنه لا يمكن فصل المعرفة السوسيولوجية في المرحلة الكولونيالية عن
شكل وطبيعة الإدارة الإستعمارية ؛ وهو ارتباط جسده جاك بيرك من خلال انتمائه
للإدارة الإستعمارية ومنفذا لسياساتها خاصة حينما كان مراقبا مدنيا في مدينة فاس.
والواقع أن جاك بيرك بفضل
مسقط رأسه والفترة التي عاشها ؛ يمثل نموذجا لفترة الإنتقال من الإستعمار القديم
في صورته القديمة إلى الهيمنة الإستعمارية في صورتها الجديدة ؛ وذلك بكل أبعاد هذا
الإنتقال ؛ هذا من جهة ومن جهة ثانية معرفته المباشرة بالعالم العربي خاصة على
مستوى معرفته باللغة العربية وبالتشريع الإسلامي ؛ حيث إن جاك بيرك عايش الظاهرة
الإستعمارية من الداخل وليس كملاحظ حارجي ؛ وكل هذا ساعده على فهم الثقافة العربية
بصورة يتفوق فيه عن غيره من الباحثين السوسيولوجيين .
يوحي لنا جاك بيرك بان
نتيجة معاينته للتجربة الإستعمارية عن قرب قد أدت به إلى أن يدرك العواقب الوخيمة
التي تؤدي إليها ظاهرة الإستعمار لا على البلاد التي تكون موضوعا لها فحسب ؛ بل
على إمكان التضامن الإنساني بين البلدان المختلفة[6] ؛ كل هذا يقدم يقدم لنا جاك
بيرك ممثلا لمرحلة جديدة من الإستعمار ؛ إنه يبدو ذلك الباحث الذي لا يبحث عن
تبرير نظري لظاهرة الإستعمار بل عن تجاوز لها ؛ وحيث أن جاك بيرك كان جزءا من
الظاهرة الإستعمارية لأنه كان من إدارتها فإن تجاوزه ذلك يريد أن يكون تجاوزا من
الداخل . كما يريد أن يمثل مرحلة جديدة من الإهتمام بالتراث الثقافي لهذا الجزء
الشاسع من العالم الذي يسمى بالشرق .
إن ميزة جاك بيرك هي أنه
يؤكد أنه لا يستطيع أن يفصل بين ماضيه اللاتيني وبين ماضيه الذي يرجع إلى المغرب
الكبير ؛ كما أنه يصرح على الصعيد المعرفي بأنه يعكس في اعماله تلك الثنائية ؛ بل
والكثرة في ذاته فيجعل أعماله منتمية إلى كل فروع ميدان العلوم الإنسانية ؛ فهو
يسعى كما يقول إلى أن يكون في الوقت ذاته عالما أنتروبولوجيا ومؤرخا وعالما
للإجتماع ...
ينتقد السوسيولوجي عبد
الكبير الخطيبي جاك بيرك مبرزا الصفة الأيديولوجية لأعماله ؛ فيرى بيرك في هذا
الإنتقاد نموذجا لتلك الإنتقادات التي يوجهها مفكرون عرب دون أن يكونوا قادرين على
أن ينوبوا عن هذا الفرع من المعرفة الإنسانية في القيام بمهمته ؛ يقول بيرك معقبا
على انتقادات الخطيبي لأعماله " جر علي الظمأ إلى النكهات الشرقية صخبا إثارة
مثقف مغربي ناطق بالفرنسية ؛ يريد أن يمنعني من دراسة الشرق لأن عيبي الأساسي أنني
أجنبي . حسنا ؛ إننا ننتظر المساهمات العملية التي هي في مستوى ما هو أهل له
"[7].
استنادا إلى رفضه لهذه
الإنتقادات يقدم لنا جاك بيرك أعماله على أنها أعمال علمية ترجع إلى اهتمامه كعالم
اجتماع ؛ أو كعالم يسعى إلى ان يشتغل بالعلوم الإجتماعية في صورة تكاملها ؛ ولا
يسعنا هنا من حيث المبدأ إلا أن نوافق على كثير من الحقائق التي يصرح بها جاك بيرك
؛ دون أن يمنعنا ذلك من مساءلتها في الصيغة التي يعبر بها عنها .
إن الأعمال التي يقدمها
جاك بيرك يصورها بأنها تندرج ضمن اهتمام العلوم الانسانية ؛ بحيث تكون جناحا شرقيا
للعلوم الانسانية ومساهمة من علماء الغرب في فهم ظواهر الشرق ؛إلا أن هذا الجناح
الشرقي لا ينبغي أن يكون صادرا كله عن الغرب؛ إن أعمال كأعمال جاك بيرك تكسب قيمة
أكثر موضوعية لو أنها إسهام ينضاف إلى أعمال علماء عرب آخرين في نفس موضوعها ؛ إلا
أن الامر يعود هنا إلى انعدام التوازن بين فيما يتعلق بالدراسات الإنسانية التي
تدرس التراث الثقافي العربي الإسلامي ؛ لكن أسباب انعدام التوازن هذه تعود بالدرجة
الأولى إلى تلك المادة التاريخية كالوثائق والمخطوطات التي تهم التراث ؛ وهذا ما
يلاحظه أنور عبد الملك بحق بأن وسائل الإنتاج هذه لا توجد بصفة أساسية في يد
الباحثين العرب بل في يد الباحثين الغربيين ؛ لأن أكثر من مئة وأربعين ألف
مخطوط تهم التراث العربي توجد خارج متناول
الباحثين العرب ؛ بينما توضع في ظروف أيسر في متناول الباحث الغربي مع أن الشروط
والظروف التي يوجد فيها الباحث الغربي تختلف كثيرا عن السياق الذي يوجد فيه الباحث
العربي[8] ؛ إلا أنه ومع ذلك فإن
الباحث العربي قادر على أن يحقق الموضوعية في تعامله مع التراث ومع واقعه الحالي ؛
لأن الأمر يعود هنا إلى تلك الخصومة التي لازالت قائمة بين التراث العربي الإسلامي
والذات الغربية والتي تمنع في الأخير من حصول التعامل الموضوعي مع العالم العربي
الاسلامي .
لقد سبق وأشرنا إلى أن
بيرك كان على وعي بالآثار الوخيمة للإستعمار على لأنه كان عضوا في الإدارة
الإستعمارية ؛ ولكننا نجد بيرك في مواضع أخرى لا يدين التجربة الإستعمارية بصفة
جذرية؛ بل يذهب إلى حد الحديث عن بعض الجوانب الإيجابية التي حافظت فيها تلك
السياسة على هوية الشعوب ؛ إننا نعرف جيدا السياسة التي مارسها بذكاء المقيم
الفرنسي الجنرال ليوطي وأساليبها وما كانت تسعى إليه ؛ إلا أننا ومع ذلك نجد بيرك
يقول في حق ليوطي " لقد صان المدن الإسلامية من عدوى المدن الجديدة . كما
حافظ ميله إلى إلى السلطة غير المباشرة على الهوية السياسية للشعب المستعمر ؛
وهكذا فإن المغرب الذي كان محتلا ؛دون أن يقع تنكر لهويته ؛ لم يكن مستعمرا لا على
صعيد المبدأ ولا على أصعدة كثيرة "[9].
إلا أن التحليل التاريخي
للتدخل الإستعماري يؤكد أنه كان هداما لهوية الشعوب التي استعمرته على جميع
الأصعدة ؛ وذلك بأن فرض على بنياتها الإقتصادية والمجتمعية تطورا يسير وفقا
لمصالحه لا طبقا لحاجيات نموها الطبيعي .
وإذا كان حاكم استعماري
مثل " ليوطي " يحاول أن يبقي بعض البنيات التقليدية في المجتمع المغربي
على حالها ؛ فذلك لأنه كان من سياسة الإستعمار ألا يحدث تغييرا إلا حيث يخدم ذلك
التغيير مصلحته . إن الحفاظ على الأصالة التي حدثنا عنها بيرك لم تكن في نهاية
التحليل إلا تمهيدا لقيام الإستعمار الجديد ؛ ولم يكن جاك بيرك مؤيدا للأصالة على
المستوى النظري فحسب؛ بل إنه كان على مستوى مهمته كموظف بالإدارة الإستعمارية ممن
يخططون لتلك النظرة ويعملون على تنفيذها .
من المهم هنا أن ندرك
التطور الذي حصل في فكر بيرك وخاصة أن كان يسير في اتجاه التخلص من الأفكار
الإستعمارية ؛ ولكن في نفس الوقت يجب أن ندرك أن بعض من جوانب التطور لم يحدث في
فكر بيرك الفردي فحسب ؛ بل إنها كانت في الوقت الذي حدثت فيه منسجمة مع
الأيديولوجيا الإستعمارية في مراحل تطورها المختلفة .
إن صون المدن التقليدية
الذي تحدث عنه بيرك لم يكن في حقيقة الأمر بحسن نية في الحفاظ على ماهو أصيل ؛ بقد
ما كان ذلك من مخطط تلك الإدارة في الحفاظ على كل ما يضمن استمرار هيمنتها[10] .
إلا أنه بعض مضي عشر سنوات
من هذا وقع تطور في أفكار بيرك حول علاقة الإدارة الإستعمارية بالشعوب المستعمرة ؛
حيث قدم تقريرا سنة 1942 عنونه ب "من أجل سياسة جديدة لفرنسا في
المغرب" ؛ وهو التقرير الذي يرى فيه
بيرك شهادة على إرادة الغيير الجذري في أفكاره ؛ فبينما كانت الإدارة الإستعماري
تسعى إلى الحفاظ على النظام في المغرب ؛ كان بيرك ضد هذه السياسة فيما يقول ؛ وكتب
في ذلك الحين " لن يستتب النظام في المغرب إلا بغيابنا عنه".
إن هذا الرأي الذي عبر عنه
بيرك لم يكن مناهضا للسياسة الإستعماري إلى الحد يحاول أن يقنعنا به . فبعد عشر
سنوات مما كتبه بيرك ستطبق الإدارة الإستعمارية الأفكار التي قال بها . بحيث أدركت
الإدارة الإستعمارية أن استتباب الأمن ليس بالضرورة أن يكون عن طريق التدخل
المباشر بل بطرق غير مباشرة .
إن ما يمكن استخلاصه من
خلال موقف جاك بيرك من التجربة الإستعمارية ؛ أن التحول الفكري الذي عرفه من رجل
مؤيد إلى رجل مناهض ومعارض للظاهرة الإستعمارية لم يكن تطورا حاصل في مجال المعرفة
وعلى مستوى التصور الخاص وفقط ؛ بل إن ذلك التطور له علاقة بما كان يحصل من انتقال
السياسة الإستعمارية من مرحلة إلى مرحلة أخرى .
إلا أن الأمور تزداد وضوحا
كلما عرفنا كيف ينظر جاك بيرك إلى طبيعة المرحلة الراهنة من تاريخ العالم العربي
الإسلامي ؛ حيث يرى " بأن ليس هناك بلدان متخلفة ؛ بل هناك فقط دول لم تحلل
تحليلا كافيا ؛ دول غير واعية بإمكانياتها وخاصة منها إمكانياتها البشرية ؛ وبلدان
لم تلق من أبنائها ما تستحقه من محبة".
لا يصبح التخلف واقعا
معاشا حسب بيرك ؛ بل حقيقة يقود إليه نقص في التحليل أي عدم معرفة معرفة ما هو
أصيل فينا؛ وبما يمكن أن يكون نقطة انطلاق لتقدم يخصنا ؛ عندئذ لن ينقص حصول التقدم شيء غير اعتماد
التكنولوجيا الغربية؛ إن الأصالة التي يعبر عنه بيرك هي كالتالي: إن أصالة العالم المتقدم هي سمة العصر؛ العصر
التكنولوجي ؛ أما أصالة العالم الساعي إلى النمو ومنه العالم العربي الإسلامي ؛
فتكمن في طاقاته البشرية وفي قيمه . وعلى هذا العالم ألا يرفض سمة العصر ؛ دون أن
يكون منتجا لها ؛ وألا يهمل جانب من قوته المتمثل في القيم المنحدرة من تاريخه
والتي حافظت بنياته التقليدية عليها .
إن الأفكار التي يعبر عنها
بيرك ليست في الواقع إلا مجموعة من النظريات التي تنسجم مع خطة الإستعمار في تقسيم
العمل الجديد بين الدول النامية والدول الساعية إلى النمو بصورة تضمن استمرار
هيمنة الدول النامية ؛ لأن الأمر هنا لا يتعلق بمجرد العودة الحنينية إلى الماضي ؛
بل بفحص نتائجه فحصا منهجيا يميز فيه القيم العقلانية التي يمكن أن تكون دعامة
للإستمرار ؛ ومعيار عقلانية القيم التي هي اللحظة الراهنة ومتطلباتها ؛ أما على
مستوى التقدم فإنه لا يمكن أن يحصل فقط عن طريق الإكتفاء بنقل نتائج هذا التقدم
دون أن نكون مساهمين فيه .
إن قصور نظرة جاك بيرك إلى
المنطقة المغاربية وعدم قدرته على فهم واستيعاب الديناميات الداخلية وبنياته
المعقدة فهما كاملا ؛ يظهر لنا جليا من خلال هذا الإعتراف الذي أقر به هو نفسه حيث
يقول " كنا ندرك الشمال الإفريقي انطلاقا من منظورنا ؛ في حين أنه ينبغي
إدراكه في إطار مشاكله الخاصة وتعقده الداخلي . وفي كلمة واحدة ؛ يتوجب فهمه
انطلاقا من منظوره الخاص ؛ أي من تأويلاته الخاصة بالأساس "[11].
-
عثمان بوعرفة
-
طالب في علم اجتماع
الهوامش:
[3] - أنظر في إحالة مقالة
" الاندماج الاجتماعي والديمقراطية : نحو مقاربة سوسيولوجية ",للأستاذ ,
فوزي بوخريص , مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث ص 3.