المعرفة المعرفة

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الانتروبولوجيا والدين


نقلا عن مجلة التسامح 

الدكتور ابو بكر أحمد 

يلعب الدين دوراً محورياً ورئيسياً في تشكيل الحياة الاجتماعية؛ لذا كان موضوعاً مركزياً في الدراسات الاجتماعية منذ بدايتها، بل بالإمكان القول: إن الدراسات الاجتماعية جاءت بديلاً في تفسير جوانب من الحياة الاجتماعية، كبديل (علماني) أو غير (لاهوتي) للتفسيرات التي كان يقدمها رجال الدين. ولقد اعتبر أوغست كونت هذا التحوّل، بوصفه جزءاً من التحولات المحورية في تأريخ الإنسان في مفهومه الوضعي للمراحل الثلاث التي مر بها الإنسان؛ من مرحلة الأساطير فالدين فالعلم. وفي المرحلة الأخيرة ظهرت العلوم الاجتماعية بوصفها تقدم تفسيرات وضعية (علمية) لما يمر به الإنسان من تحولات وتغيرات، سعى فيها إلى أن يحل تفسيرات تعتمد على عوامل ومتغيرات موضوعية عقلانية لتفسير ما يواجهه المجتمع الإنساني من تحولات بدلاً من التفسيرات اللاهوتية الأخلاقية المعيارية.


ويدخل علم الاجتماع الديني -بوصفه فرعاً من فروع علم الاجتماع العام- ضمن دائرة أوسع من الاهتمامات السائدة في علم الاجتماع، منها علم اجتماع اللغة والرموز، وعلم اجتماع المعرفة والنظرية الاجتماعية، وكذلك ينضوي ضمن السياق العام نفسه ما يمكن أن يسمى علم (أنثروبولوجيا الدين) والذي يشمل دراسات فيما يمكن أن يسمى بالممارسات الشعبية الدينية والفلسفة الأنثروبولوجية التي تتعلق بتصورات المجتمعات الأولية البسيطة للكون والحياة، وما يدور في فلكها من نشاطات تسمى أحياناً بالأديان، أو المعتقدات الدينية البدائية، والسحر والشعوذة وغيرها مما سنأتي على ذكره لاحقاً. ولقد شكّل الدين وما يتصل به من ممارسات وطقوس وبنى تنظيمية أسئلة محورية اهتم بها رواد علم الاجتماع، وكانت هذه الأسئلة قد دفعت بهم إلى تناول موضوع الدين بشكل مباشر، ربما لن نكون مبالغين إن قلنا: إن معالجتهم للقضايا التي يطرحها مكّنتهم من بلورة مفاهيم محورية في إسهاماتهم النظرية التي أثّرت، وبشكل عميق، في علم الاجتماع. وسنتناول -وبعجالة- في هذه الورقة أهم ثلاثة روّاد في علم الاجتماع: ماركس، ودوركايم، وماكس فيبر من خلال عرض أهم المفاهيم والقضايا التي قدموها في دراستهم للظاهرة الدينية.

وبدءاً، علينا أن نوضح أن كلاً من ماركس ودوركايم كانا في معالجتهما للظاهرة الدينية يسعيان إلى بحثها من خارج إطار المؤسسة الدينية القائمة، وأن يقدما ما يمكن صياغته بالوضع الاجتماعي العلماني الذي يُمكنه تجاوز المسألة الدينية، بينما كان اهتمام فيبر هو التأكيد على أهمية ومحورية الفكر الديني في ظهور وبلورة المجمع الصناعي الحديث.

ولقد تركّزت جهود ماركس في معالجة المسألة الدينية انطلاقاً من ثلاثة أسئلة هي:

- هل المجتمع الحديث بحاجة إلى موجِّه ديني، بالمعنى الذي كان سائداً في العصور الوسطى؟

- وإذا كان العامل الديني عاملاً مؤثراً في الحياة الاقتصادية والسياسية للمجتمع فكيف بالإمكان حلّ المسألة اليهودية؟ ولقد خصّص المسألة بالتحديد في سياق مجتمع صناعي رأسمالي يسعى إلى أن يكون مجتمع العدل والمساواة فيما يتعلق بعضوية الفرد المنتج في النسيج الاجتماعي العام.

- أما السؤال الثالث فيتمحور في مسألة: وظيفة وتأثير الدين في حياة الفرد والمجتمع الحديث.

ولقد كانت معالجة ماركس تتمركز على أوضاع ومتطلبات المجتمع الأوروبي الصناعي في القرن التاسع عشر، وفي شكل مواجهات مع ما كان يُطرح في عصره. ففيما يخص التفسير العلمي لظهور الدين تاريخياً كان طرحه رداً على المقولات التي طرحها فيورباخ، موسعاً التأكيد على أن التصورات والمفاهيم والبنى الدينية إنما هي استجابات اجتماعية أُسقطت على المقدّس، وبطبيعة الحال يدمجها ماركس في بعض دراساته الأخرى بمسألة أسلوب الإنتاج والصراع الطبقي على المصالح الطبقية، وكيف أن تسييس مفهوم السلطة والهيمنة من طرف الطبقة والنُخَب الحاكمة جعلها تستخدم الدين أيديولوجياً لقبول سلطتها.

أما المسألة اليهودية فكان ماركس يعمل على تصفية أثر العامل الديني في (خلق) عوائق للاندماج الاجتماعي للفئات الاجتماعية، بما فيها الجماعة اليهودية التي لم يكن آنذاك إدماجها في النسيج الاجتماعي الأوروبي الذي لم يتمكّن حينها من دمجهم، وما قدمه ماركس كان جزءاً من الجدل الأوروبي لهذه المسألة آنذاك ولكن من منظور علم الاجتماع الماركسي.

أما المعالجة التي أُسيء فهمها فيما قدمه ماركس، فكانت ما يتعلق بوظيفة الدين وتأثيره في المجتمع، وربما تحديداً، عند الطبقة العاملة والكادحة الحضرية، والتي اعتبر فيها ماركس الدين مخدِّراً، أو بحسب تعبيره (أفيون الشعوب) يعتمدون عليه لتغييب أوضاعهم، وصرف أنظارهم عن مواجهة قضاياهم اليومية المعيشة عن طريق التعلّق بآمال تميل إلى العالم الأخروي أكثر منها إلى عالم الواقع المادي المُعاش. وفي الحقيقة مسألة تأثير الدين في تشكيل الوعي يمكن النظر فيها عند ماركس في سياق أوسع، سعى ماركس إلى تقديمه في العديد من دراساته لمفهوم الأيدولوجيا ومفهوم الاغتراب والتشيّء. وفي هذا السياق يتناول مسألة إعادة إنتاج العالم والثورة على الأوضاع القائمة من منظوره التنظيري الخاص، الذي أصبح عند العديد من الدارسين الماركسيين الذين أتوا بعده. ويظهر أن سوء فهم ماركس لهذه المسألة كان مقصوداً لإبعاد الجماهير عن أفكار ماركس، ووصفه عدواً مناهضاً للدين إجمالاً، رغم أن ما قدّمه كان مقدماً بوصفه تحليلاً أو عرضاً للتأثير الاجتماعي للدين في السياقات الاجتماعية.

أما إسهامات دوركايم في علم اجتماع الدين فتدور حول مجموعة من القضايا لعل من أهمها تقديم تصور اجتماعي لمفهوم الدين من الزاوية الاجتماعية، ومفادها: أن مفهوم الدين عنده إسقاط اجتماعي تعظيمي لممارسة المجتمع وإعادة إنتاجه في شكل رموز دينية مقدسة، ويُعد ما قدمه في كتابه: (الأشكال الأولية للحياة الدينية)، والذي تناول فيه الممارسات الدينية كما قدمته بعض الدراسات الميدانية، التي انتهى فيها إلى بلورة مفهوم (المقدّس/المدنّس)، وكذلك مفهوم (الضمير والعقل الجمعي)، وكيفية التغيّرات والتحولات في الممارسات الدينية في المجتمع، وبذلك فتح آفاقاً جديدة غير لاهوتية لدراسة الظاهرة الدينية.

لكن بالإضافة إلى ما قام به في تلك الدراسة، يُشير اهتمامه بمفهوم التضامن الاجتماعي وما أسماه بـ(الأخلاق الاجتماعية) دعوته إلى مجتمع يتجاوز حدود الانتماء الديني، ومن ثم التمييز والتصنيف الاجتماعي على أساس الدين. ونظراً لاهتمامه بمسألة التوحيد والتماسك المجتمعي القائم على مجموعة من القيم العلمانية للمجتمع الحديث، فإنه أظهر اهتماماً بالمسألة الدينية من الزاوية الاجتماعية عن طريق التأكيد على ضرورة ظهور قيم ومعايير اجتماعية علمانية تتجاوز الدين. ويُعد دوركايم من العلماء البارزين الذي أكّدوا على ضرورة تناول (الدين) بوصفه ظاهرة اجتماعية فقط.

يُعد فيبر أهم الرواد الذين اهتموا بدراسة العديد من جوانب عديدة، ويعود له الفضل في تأسيس فرع علم (اجتماع الدين) بمفهومه الحديث والمعاصر. ولقد اهتم بالعديد من القضايا بعضها يناقش فيها ماركس، وبشكل مطوّل، لكنه في معالجته لموضوع الدراسة الاجتماعية للدين تجاوز مجرد مناقشته ماركس وتناول موضوعات تفصيلية سنأتي على ذكرها وبشكل مختصر.

كان السؤال المحوري عند فيبر لماذا ظهرت الرأسمالية بشكلها الحديث لأول مرة في التاريخ عند مجموعة دينية غربية محددة في أوروبا الغربية وسكان أمريكا الشمالية تحديداً ولم تظهر -رغم توافر الشروط المسبقة- في أديان وأماكن أخرى؟ ولقد نشر في البدء مقالة مطولة بعنوان: (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية) وفكرة هذه المقالة تدور حول مناقشة لشبح ماركس، يؤكد فيها فيبر أن الرأسمالية إنما ظهرت عند مجموعة من المنتمين إلى طائفة الكالفانيين، أو بالأصح، بشكل عام، عند أتباع المذهب البروتستانتي الذين كانت لهم بعض المعتقدات الدينية، وأن هذه المعتقدات هي التي تولدت عنها مجموعة من الأفكار والمفاهيم من أمثال: قيمة الوقت، وأن العمل رسالة دينية في حياة الفرد، ومفهوم الزهد الديني والزهد الأخروي، ونشدان الخلاص عن طريق العمل المنظم بشكل عقلاني، وأنه رغم توغّل وتعمّق التفكير الديني عند هذه الجماعات الدينية فإنها انتهت بها إلى رسم القيم والتوجهات الأخلاقية والسلوكية التي شكلت القيم المولِّدة لنشأة الرأسمالية الحديثة. وهو بذلك يؤكد على أن ما دفع إلى ظهور الرأسمالية -بوصفها أسلوب إنتاج أفرز بنية المجتمع الصناعي الحديث- إنما هو القيم الدينية(**).

ولقد قارن فيبر في مقالته هذه بين خصائص وسمات أتباع الكنيسة البروتستانتية، في مقابل أتباع الكنيسة الكاثوليكية، ليؤكد أن المفاهيم والقيم الدينية الموجِّهة للبروتستانت هي التي جعلتهم يتجهون إلى تقديس العمل وإعطائه قيمة خلاصيّة، وأن يكون الخلاص فردياً يعتمد على النجاح الدنيوي بشكل أساسي، على عكس مفاهيم الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تقدم الخلاص عبر الكنيسة وبشكل جماعي.

كان تأثير هذه المقالة الطويلة، والتي أضاف إليها وعدلها فيبر فيما بعد، أن أثارت جدلاً واسعاً بين معاصري فيبر ولا يزال الجدل مستمراً. ولكن لم يبق الجدل مركّزاً على السؤال التأريخي الذي أثاره فيبر وإنما في قضايا اجتماعية أخرى لعل من أهمها مسألة التنمية ومسألة توسيع دائرة السؤال التأريخي بشكل مقارن. الأولى بذر بذرتها فيبر وتناولها بعده علماء اجتماع معاصرون، أما الثانية فكان فارسها الأوحد فيبر نفسه. فبعد أن سعى فيبر للتأكيد على أن ظهور الرأسمالية الحديثة في الغرب، وأن هذا الظهور اعتمد على مجموعة من المفاهيم والسلوكيات الدينية التي كانت سائدة فقط بين البروتستانت عموماً والكالفانيين على وجه الخصوص، وذلك من خلال المقارنة بما كان عليه وضع أتباع الكاثوليكية، قدّم فيبر دراسات مقارنة غايةً في الطموح، أوضح فيها أنه رغم توافر كافة الشروط التي يمكن لرأسماليات أخرى أن تظهر في الأديان الأخرى إلا أنها لم تنجح في إنتاجها. ولقد شملت الدراسات دراسته عن اليهودية القديمة، وأديان الهند، وأديان الصين، ولم تظهر دراساته التي كان ينوي نشرها عن الإسلام. ولقد أوضح فيبر في دراساته هذه أن هناك عوائق جوهرية داخلية في معتقدات هذه الأديان حالت دون تمكنها من بلورة صيغة رأسمالية للإنتاج فيها! بطبيعة الحال، لا زال الجدل مع فيبر وضده قائماً حول ما قدم.

أما للمسألة الأولى فلقد فتّقت مستويين لقراءة مقالة (الأخلاق البروتستانتية ورح الرأسمالية):

- الأولى: تاريخية تفسيرية، وهي التي قدمها فيبر.

- والأخرى عامة حول تأثير القيم الدينية فيما أصبح يعرف بقيم العمل، والتي طبقها فيبر على أديان مختلفة.

لكن علماء اجتماع التنمية، أو من عرفوا بأصحاب النظريات الداخلية للتنمية أرادوا أن يوظفوا أطروحة فيبر على المجتمعات الإنسانية لتوليد الظروف المواتية لتأسيس إمكانيات ظهور مجتمعات رأسمالية حديثة من خلال توليد قيم العمل المعروفة عند فيبر بـ(الأخلاق البروتستانتية)، والتي أوضح فيبر في نهاية أطروحته على أنها لم تعد بحاجة إلى المعتقدات الدينية الكالفانية الأصيلة، وأنها أصبحت مستقلة عنها في دول آسيا وأفريقيا وغيرها التي تحتاج لها لقيام رأسمالياتها. وتتمحور هذه النظريات حول التأكيد على أنّ تجذير هذه القيم وغرسها في هذه المجتمعات وقدرتها على تجاوز القيم والممارسات التقليدية سيسمح لها بتأسيس رأسمالية جديدة مناسبة. ومن أبرز رواد هذه النظريات: روستو، وماكلنيل، وليرنر، وبيرغر، وانكليز وسميث وغيرهم كثير، وجميعهم يؤكدون على أنّ أسباب تخلف المجتمعات النامية هي منظومة القيم الدينية السائدة فيها، والتي تحول دون، أو تقف عائقاً، ضد انتشار قيم العمل، والدافع للتأكيد على انتهاج العقلانية في الإنتاج.

ولقد لعبت النظريات الداخلية للتنمية، التي تولّدت من أطروحة فيبر خلال عقد السبعينيات الميلادية كما أوضحنا، دوراً مهما ً في قضايا التنمية لكن على ما يظهر لم تعد بصيغتها التي نشرت في الأوساط العلمية، رغم أن أطروحة فيبر لا تزال تشغل بال علماء الاجتماع.

لم تقتصر اهتمامات فيبر السوسيولوجية بالدين على أطروحته هذه وإنما استتبعها بدراسة علمية كلاسيكية تناولت علم اجتماع الدين قدم فيها العديد من المناهج والقضايا الداعمة لأفكاره في كتابه العمدة (الاقتصاد والمجتمع)، ومن أبرزها دراسته رجال الدين ودورهــم داخل بنية الكنيسة مؤكداً فيها على أنواع الفصل الاجتماعي وأشكال السلطة والبيروقراطية التي أبدعها. وله نظـريته حول التحول من الطريقة الدينية Cult إلى تكوّن الكنيسة فالفرقة/الطائفة الدينية، ولقد طورها غيره.

ولقد تأثر العديد من علماء الاجتماع الدارسين للدين بمجمل أسلوب وأفكار فيبر - لعل أهمهم (روبرت بلّه) الذي قدم دراسة حاول فيها تقليد فيبر عن مدى تأثير الأفكار الإصلاحية لفترة الميجي في اليابان على تولّد المعجزة الرأسمالية اليابانية، ولقد تمكن أيضاً من تقديم أطروحة ما أسماه بالدين المدني عن جوانب من أساليب الحياة في المجتمع الأمريكي المؤكدة على وجود مجموعة من الطقوس والسلوكيات الجماهيرية التي توضح وتعكس روح المجتمع الأمريكي بغض النظر عن خلفياتهم المعرفية أو الدينية مثل طقوس الاستمتاع بكرة القدم والبيسبول الأمريكي وفطائر التفاح والخدمات والوجبات السريعة التي تتمحور حول الفعالية والعقلانية التي بلورها فيبر في دراسته. ونجد حديثاً صدى لهذه الأفكار عند ريتز في كتابه عن (مكدنلة المجتمع) وبالذات ما يتعلق بالمجتمع الأمريكي وقيم العقلانية.

وكذلك نجد صدى لأفكار فيبر وبالذات في منهجيته القائمة على مبدأ الفهم واستخدام النماذج المثالية في دراسات تامبيه عن البوذية التايلندية، وكذلك نجد الروح نفسها في دراسات مارشال هدجسون عن الإسلام في كتابه (مغامرة الإسلام). وأثرُ الطرح الفيبري واسع الانتشار نجده في العديد من الدراسات الاجتماعية. وهناك أرتال من هذه الدراسات الميدانية التي تناولت الدين وآثاره الاجتماعية في السياسة والاقتصاد والقيم والمؤسسات الاجتماعية بشكل عام. ويمكننا القول أن هذه الدراسات اعتبرت الدين متغير مستقل يؤثر في الاختيارات والقرارات التي يعتمدها الناس في الكثير من أمورهم الحياتية والمعاشية، انطلاق من التوجيهات الدينية على سلوكياتهم.

ولقد تولّد من موقف أطروحة فيبر العديد من الأطروحات لعل من أحدثها أطروحة هف عن ظهور العلم الحديث في الغرب وعند تحققه في الحضارتين الإسلامية والصينية رغم توافر كافة العوامل لها.

لم يتوقف الاهتمام بدراسة الدين وأثره في المجتمع على الرواد فقط وإنما ظهرت أرتال من الدراسات الميدانية التي تناولت الآثار الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للعامل الديني. ومعظم هذه الدراسات اعتبرت العامل الديني عامل تفسيري مهم يؤثر في العديد من الاختيارات والقرارات التي يعتمدها الناس في الكثير من أمورهم الحياتية والمعاشية. وتتفاوت هذه الدراسات من حيث قيمتها التحليلية في تفسير أثر الدين في حياة المجتمع من ناحية والتأكيد على هذا الأثر ذاته بتأثره بالظروف والأوضاع الاجتماعية المتغيرة نفسها.

ولم تقتصر الدراسات ذات التوجهات السسوسيولوجية في دراسة الدين على دراسة الاتجاهات، وإنما كانت هناك جهود في التنظير للدراسات السوسيولوجية والعملية للدين سواء من حيث المنهجية المستخدمة أو نوعية الأسئلة التي يمكن الانطلاق منها لدراسة الظاهرة الدينية بعيداً عن المناهج اللاهوتية التقليدية. وفي هذا السياق نجد أنفسنا أمام أكثر من منطلق في أسلوب تناول الموضوع. بعضها يرتبط بقوة داخل إطار الدراسات الاجتماعية مثل دراسة (ينر) في كتابه (الدراسة العلمية للدين)، أو ما نجده من طرف علماء لاهوت سعوا لتقديم تفسيرات (غير تقليدية أو دينية) لدراسة الدين ولعل ما قدمه فرويد نموذجاً لها، لكن تبقى دراسات (رادلف أوتو) عن المقدس أو في مقارباته لدراسة الدين من الأمثلة المهمة. وتُعد جهود علماء تفسير النصوص الدينية المسيحية الذين سعوا لاستخدام طرفاً من العلوم الاجتماعية وبالذات اللسانيات يشكل مدخلاً مهماً كان له أثره الواسع في الدراسات الغربية عن الدين، نذكر في هذا السياق جهود شلامايخر، وكارل بارت وغيرهما من علماء التفسير والتأويل، وتظهر امتدادات هذه الدراسات في مجلة حديثة ترعى هذه الاتجاهات بعنوان (دراسات في الكتاب المقدس) تصدر عن بريل الهولندية هذه التوجهات فتحت الباب على مصراعيه للاستعانة بنتائج الدراسات الاجتماعية الحديثة على النصوص الدينية.

ورغم أن غالبية التوجهات السوسيولوجية سعت إلى تقديم نفسها بوصفها تقدم دراسات علمية موضوعية غير لاهوتية للظاهرة الدينية وأنها تدرسها بوصفها ظاهرة اجتماعية وأنها لا تحاكم أو تدرس الدين بوصفه مسألة اعتقادية ولا تسأل عن مصداقية أو صحة هذه المعتقدات، وإنما على العكس تدرس آثارها وربما توظيفها الاجتماعي، إلا أن أسلوب ومنهجية الدراسة كان في مجمله علماني النزعة ولا يظهر أي تعاطف مع هذه القيم وإنما يتعامل معها بحيادية أو حتى ببرود مطلق. لكن هذه التوجهات وإن كانت الأكثر انتشاراً حتى أن البعض طرح مسألة إذا كان من الضروري أن يكون دارس الظاهرة الدينية والعالم الديني من خارج دائرة المؤمنين حتى تكون دراسته سوسيولوجية وتتسم بالعلمية. ولا يزال السؤال مطروحاً وبقوة ولكن ورغم هذا هناك مجموعة من الدراسات والتوجهات السوسيولوجية التي تناولت البعد النفعي للدراسات السوسيولوجية لدعم المؤسسات الدينية في سعيها لتوسيع آثارها الاجتماعية. وتُعد مبادرات لوبرا الفرنسي فيما عرف بعلم اجتماع التدين أو علم اجتماع الكنيسة من الأعمال الرائدة والمهمة.

ويسعى هذا النوع من الدراسات إلى استخدام والأساليب الاجتماعية لدراسة ظاهرة التدين والممارسات الدينية في المجتمع. ويميل هذا الاتجاه إلى أن يكون المشرفون عليه من المؤمنين الذين يرون أن للعلوم الاجتماعية إمكانيات يمكن الإفادة منها لخدمة معتقداتهم الدينية، على عكس الدراسات السوسيولوجية للدين التي ترغب في دراسة الظاهرة الدينية وتفسيرها بشكل نقدي.

وهذا يقودنا لظاهرة استخدام نتائج وأساليب العلوم الاجتماعية لدراسة جوانب ظاهرة الحركات الدينية الحديثة، ولعل ما تشهده الساحة العلمية من حشد للدراسات تأخذ عباءة علمية لدراسة الجماعات الدينية في العالم قد تنتج مجموعة جديدة من الدراسات والأسئلة في دائرة العلوم الاجتماعية، ودفعت الأسئلة السوسيولوجية حول الدين إلى مفازات وآفاق جديدة، إذ صدرت ومنذ الثمانينات دراسات حول هذه الحركات الدينية بدءاً من دراسة الأصوليات، فدراسة الحركات الاجتماعية والسياسية التي تبنت واجهات دينية تنتهي بالدراسات التي تركز على ما يسمى أحياناً بالإرهاب أو تحديد الدين السياسي والإرهابي الديني. ورغم أن جملة من هذه الدراسات قدمت دراسات وبحوث حول الأصوليات في أديان العالم، إلا أننا نشهد في الآونة الأخيرة العديد من الدراسات الاجتماعية اهتمت بالتركيز على دراسة الجماعات الإسلامية، ولعل دراسات (جيل كبيل) و(لوروا) وغيرهم كثر لهذه الحركات الدينية من خلال اعتماد أساليب العلوم الاجتماعية يجعلنا نتساءل عما إذا كانت هذه الدراسات تمثل انعطافة علمية في مجالات علم اجتماع الدين أم هي ضرورات تتعلق بالأمن والسياسات المطروحة وليس لأسباب علمية بحتة؟ هذا السؤال يبقى معلقاً.

لا يقل الاهتمام الأنثروبولوجي لدراسة الدين عن الاهتمامات السوسيولوجية، لكن اهتمامات الأنثروبولوجين تركزت في البدايات في مجملها على ما يمكن تسميته بالتصورات والمعتقدات التي كانت سائدة في مجتمعات الشعوب النائية البسيطة على البنى الاجتماعية في آسيا وأفريقيا والعالم الجديد، تلك التي كانت تسمى بالبدائية، وتُعد دراسات إيفانز برتشارد حول دين ومعتقدات قبيلة (النوير) في جنوب السودان نموذجاً مهماً. ولقد اهتم علماء الأنثروبولجيا بتقديم العديد من النظريات والمقولات الخاصة بنشوء وتطور المعتقدات الدينية، ولهم دراسات وآراء قدموا فيها تحليلات عميقة للطقوس الدينية وآثارها الاجتماعية وعملوا على تحليل الأفكار والتصورات والمعتقدات التي مارسها الإنسان في هذه المجتمعات شملوا فيها السحر والشعوذة من ناحية والممارسات الاحتفالية الجماعية المؤكِّدة على تأثر هذه المعتقدات في حياة السكان وبالذات في حياتهم المعيشية اليومية كالصيد والرعي والزراعة، وأثرها أيضاً في تنظيم حياتهم الاجتماعية والثقافية، ولقد انتهى بعضهم بنماذج نظرية لبنى هذه المجتمعات لعل من أهمها ما انتهي إليه إيفانز برتشار في نظريته عند المجتمعات الانقسامية المركزية في هذا السياق.

ولقد قدم علماء الأنثروبولوجيا دراسات عديدة حول العقل الخرافي أو الديني عند أفراد هذه المجتمعات البسيطة، ولقد تميزت هذه الدراسات بالتأكيد على أن بنية تفكير أفراد هذه المجتمعات خرافية لا عقلانية، وعلى اعتبار أنها ساذجة، ومن ثم قدم بعضهم معتقدات هذه الشعوب الدينية بوصفها تعكس ذلك. لكننا نلاحظ ظهور دراسات جديدة عملت على توضيح مدى تقدم، أو على الأقل، اختلاف هذه الأساليب في التفكير عما هو سائد في المجتمعات الغربية، لكنها في الوقت نفسه قادرة على تقديم صور متقدمة من التفكير التجريدي يمثل الطرف الأول التحقيري: الدراسات التي قدمها ليفي برودهل ومن يناصروه، أما المراجعات الجديدة فإننا نجد طرفاً منها في دراسات ليفي ستروس وبالذات في كتابه (العقل البري).

ولقد عمد بعض الأنثروبولوجين إلى تقديم تحليلات إبداعية وجريئة للمعتقدات والطقوس الدينية عند هذه الشعوب، أفادت كثيراً من التقدم الذي تحقق في دراسة الأساطير والأديان القديمة، ويعد فكتور تيرنر من أهم من درسوا هذه الطقوس، وتُعد دراسات كامبل لأساطير الخلق والنظم الاجتماعية في هذه الأديان والمعتقدات من الدراسات الرائدة. أما ديمزديه فإنه نظر وتعمّق في دراسة الأديان والنصوص القديمة في أديان آسيا، وبالذات في نصوص الفيدا الهندية، والنصوص الفارسية القديمة، بما يُعد مساهمة مهمة في فهم أساليب الإنسان القديم في تصوره للكون. لكن ومن التحولات التي دفعت علماء الأنثروبولوجيا للانتقال بأساليب دراساتهم عن التركيز فقط على المجتمعات البدائية أو البسيطة غير الغربية إلى الاهتمام بالمجتمعات التاريخية والحديثة قدمت الأنثروبولوجيا دراسات غاية في الأهمية في دراسة الممارسات الدينية فيها.

ولقد توجت الدراسات الأنثروبولوجية عن المجتمعات المسلمة بدراسات لرواد مهمين في علم الأنثروبولوجيا منهم إرنست جيلنر، وكليفرد جرتس وغيرهما. وسنقدم فكرة موجزة عن بعض أهم أفكارهما. فلقد قدم جيلنر مجموعة من الدراسات والتأملات الأنثروبولوجية عن الدين والمجتمع المسلم في شمال أفريقيا، وسعى إلى تطبيق النظرية الانقسامية التي توصل إلهيا إيفانز برتشارد على المجتمع المسلم في الجزائر والمغرب مستعيناً بدراسات وأفكار رائد السوسيولوجيا الاستعمارية الفرنسية روبرت مونتاي، وكذلك على مختارات منتقاة من أفكار ابن خلدون. ويميل جيلنر إلى الرأي القائل بأن الإسلام يقدم مخططا أساسيا لما يكون عليه المجتمع والحياة في تلك البلدان. ولقد كان لدراسات جيلنر تأثيراً كبيراً في الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة، خاصة وأنه يشكل ما يمثل منطلقات المدرسة البريطانية في الأنثروبولجيا الاجتماعية. ولقد انتُقدت دراسات جيلنر من العديد من الدارسين من أبناء هذه البلدان لعل من أهم منتقديه عبد الله حمّودي وطلال أسد.

أما دراسات كليفرد جيرتس فهي تعتمد على ما يُعرف بمنهج الفهم الفيبري، والتأكيد على دراسة المعاني والرموز التي يشرح بها أصحاب هذه المجتمعات أفعالهم. ولقد قارن في دراسته بين مفهوم الإسلام في كلٍ من إندونيسيا والمغرب، وكيف أن جملة من الرموز والشخصيات المحورية لعبت أدواراً مهمة في تجسيد تفسيرات مهمة ليس فقد على الممارسات الدينية التي تتمحور حول المقدس والبركة وأهمية دور الولي في حياة الناس، وإنما أيضاً في كيفية إعادة صياغة تفسير النصوص الدينية التي، بالتالي، تدفع لظهور معانٍ جديدة تسمح (للإصلاح) أو (التغيير الديني).

ويزعم جيرتس أن مهمة الباحث الأنثروبولوجي هي القدرة من خلال الوصف المعمق والمتابعة التفصيلية الوصول إلى ما أسماه بالمعرفة أو المعلومات المحلية، التي إن قام بعرضها والسماح لأصحابها بتقديمها يكون بذلك قد توصل إلى معرفة كنه وطبيعة المعتقدات الدينية المحورية فيها. ولم يكتف بالتنظير لذلك وإنما سعى من خلال بعض المشاريع والدراسات الميدانية بنفسه أو مع مجموعة من تلاميذه تقديم ما رمى إليه. وتُعد دراساته المبكرة عن إندونيسيا نموذجية في هذا السياق وبالذات دراسته عن (دين جاوه)، والذي درس فيه المعتقدات والطقوس الجنائزية أولاً، ومن بعدها المعتقدات الدينية عموماً عما أسماه بالدين الجاوي. وتُعد دراسته المقارنة عن إندونيسيا والمغرب (الإسلام ملاحظاً) من أهم التطورات لأنثروبولجيا الدين في الدراسات الحديثة. أما دراسته وفريقه العلمي حول مدينة (صفرو) وامتداداتها لمجالات تقديم الروابط والعلاقات الاجتماعية، والنظم الاقتصادية والشبكات الأسرية من الدراسات المبتكرة في تتبّع دور الدين في حياة المجتمع، بل وفي أساليب تعايشه ونضاله مع الاستعمار في المغرب الحديث.

وتُعد مقارنته بين الولي الحسن اليوسي والملك محمد الخامس من ناحية، والتقابل بين الولي الإندونيسي كالجيكا وأحمد سوكارنو من المقاربات الأنثروبولجية الطريفة.

وكما أشرنا كان لتلاميذ جيرتس ومدرسته كبير الأثر في فتح مجالات وأسئلة منهجية ومفاهيم أنثروبولجية قامت على أساسها دراسات ميدانية عن المجتمعات المسلمة في المغرب واليمن وعمان وغيرها. وهنا، في هذا السياق، يبرز عمل إيكلمان الذي واصل جهود جيرتس. بطبيعة الحال وجدت دراسات جيرتس من يقدم دراسات نقدية عنها، لكن دراسة طلال أسد النقدية لتعريف الدين عنده تُعد من الدراسات المهمة والعميقة.

ولقد توسع مجال الدراسات الأنثروبولوجية عن منطقة العالم العربي، ربما لأسباب أمنية وسياسية، لكن يبقى الاهتمام العلمي مؤثراً في دراسات الطرق الصوفية والطقوس الدينية المصاحبة لاحتفالاتهم. ومؤخراً قامت العديد من الدراسات التي اهتمت بدور وتأثير إمام الجامع وخطيب الجمعة، وربما هدفت هذه الدراسات لإبراز أهمية الأدوار الاجتماعية لهؤلاء وتأثيرهم في الجماهير المسلمة. ولقد تطورت الأساليب والمناهج التي تدرس المؤسسات الإسلامية في ممارستها الحياتية اليومية، ومن أبرز الدراسات التي اهتمت بذلك تلك التي درست أساليب الإجراءات الدينية في المحاكم الشرعية أو في أساليب وطرائق التقاضي أمام القاضي الديني التقليدي.

ولقد حظيت الجماعات والحركات الإسلامية السياسية ببعض الدراسات الأنثروبولوجية سواء، لأغراض فهم الرموز الدينية في المجتمعات المسلمة، أو لفهمها وفهم آلياتها لإمكانية الإفادة منها أمنياً. وتُعد تحليلات طلال أسد في كتابه (أنساب الدين) محاولة جريئة في السعي لفهم حدود النقد الديني العلني للممارسات السياسية، وكذلك دراسته عن التعبير الديني الاحتجاجي عند مجتمعات المهاجرين المسلمين في الغرب وكيف نُوقش وفُسر من كافة الأطراف.

وفي ختام هذا الاستعراض السريع والمختزل من الواضح أن (الدين) يُعد موضوعاً أثيراً في الدراسات الاجتماعية. وربما بإمكاننا القول: إن الدراسات لتي سعت لإبراز أشكال تأثير الدين في الحياة الاجتماعية والتأكيد على أهمية العمل الديني في حياة المجتمع الحديث ما يؤكد على أن هذه الدراسات -حتى وإن انطلقت من رؤى نقدية- تُسهم في توسيع فهمنا للظاهرة الدينية. صحيح أن بعض هذه الدراسات أصبحت في الآونة الأخيرة ذات توجهات مسيّسة، لكن هذا لا ينفي أهميتها، ومن ثم ضرورة الوقوف عليها ودراستها، والسعي لفهمها ووضعها في سياقاتها المناسبة!

عن الكاتب

sociomaroc

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

المعرفة