يوسف زروق
إنّ التأسيس النظري لبدايات تشكيل وبناء المجتمع المدني الإسلامي في عصرنا الراهن، يجب أن يمر أولاً على طريق فضّ النزاعات والخصومات الفكرية المعرفية السائدة على الساحة الثقافية والسياسية العربية والإسلامية حالياً، والتي يمكن تلخيص جوانبها المختلفة في إشكالية نظرية (وعملية) موضوعية هامة جداً هي إشكالية «الإسلام والعلمنة، وقضايا الحرية والديمقراطية والأخلاق الواقعية العملية»، وذلك بعنوان كونها بحسب رأي التيارات والنخب العلمانية من مقومات الإنتقال إلى المجتمع الإسلامي (العلماني).
ويصل الأمر بتلك النخب أن تطرح وتنظر لوجود تصادم وتناقض دائم بين البناء الإسلامي، وبين الحرية والاختلاف أو تعدد الآراء والإجتهادات، بحيث يبدو الإسلاميون وكأنهم في حالة إزدواجية بين قناعتهم الفكرية والنظرية، وبين ممارستهم السياسية العملية. أي بينها وبين ركائز وآليات عمل المجتمع المدني نفسه(1). وهذا التعبير نجده واضحاً في نقد النماذج الإسلامية، ومحاولة ايجاد عنصر رابط لكل تجاربها وأنماطها، بحيث تلقي التبعة على قدرة الدين على بناء حياة سياسية جيدة متطورة تناسب ازدهار وتطور الحياة المدنية.
لا شك بأن هناك إشكالية دائمة تواجه الإسلاميين تستلزم منهم إجابة شافية ووافية تتمحور حول السؤال التالي: هل بإمكان الإسلام (السياسي!) بناء نظام اجتماعي مدني ينتج قانوناً إسلامياً مدنياً؟! وما هي حدود العلاقة التي يقيمها هذا النظام المدني مع الآخر أياً كان إنتماؤه وتوجهاته الفكرية؟! وهل هناك علاقة بين هذا النظام الاجتماعي المدني الإسلامي وبين الآخر العلماني؟!
في الواقع، لا تزال المسألة العلمانية تشغل الأوساط الثقافية العربية والإسلامية التي لم تتفق حتى الآن على تحديد المعنى المصطلح لكلمة «العلمانية»(2)، وربّما يعود السبب الكامن وراء هذا الاختلاف في فهم المصطلح إلى طبيعة الجدل الذي انطلق من خلال منشأ تلك الكلمة بلفظها ودلالتها في البنية المعرفية الغربية، ومحاولة النخب والقوى الثقافية عندنا ايجاد مناخ مناسب لها في فضاء الثقافة الإسلامية، يمكن أن تنمو فيه «نبتة» العلمانية. وقد قاد هذا الاختلاف إلى انقسام النهضويين والسلفيين بشأن الأسئلة الكثيرة المثارة حول العلمانية وطبيعة علاقتها بالدين والدولة، والإشكاليات الناتجة عن طرح هذا الموضوع الفكري في السياق المعرفي الإسلامي في ظل المتغيرات الاجتماعية والسياسية المحلية والدولية، التي لا تزال تشهدها أمّتنا حتى الآن.
لقد جاء تقديم الإجابات عن تلك الأسئلة النهضوية من قبل مفكري النهضة ومَن جاء بعدهم تقريباً دون مستوى الآمال والطموح في كثير من مواقعه واتجاهاته، متأثراً بعوامل وظروف تاريخية سياسية عديدة، كان من أبرزها الظروف الناشئة من حركة الاستعمار الأوروبي لقسم كبير من بلاد العرب والمسلمين، وما رافق ذلك من تحولات اجتماعية واقتصادية وفكرية كبيرة.
من هنا انقسمت الإجابات المتعلقة بالعلمانية بشأن نشأتها في بلادنا إلى قسمين، الأول: قدس العلمانية واعتبرها خشبة الخلاص والإنقاذ من بحر الظلمات والتخلف الذي تعيشه بلادنا في داخلها، بل وغيرها من البلدان المتخلفة باعتبار ان مسيرة التاريخ الكوني آيلة إلى العلمانية (نهاية تاريخية!!).
أمّا الثاني، فقد لعنها ورفضها وأصدر بحقها الفتاوى والتحريمات من دون الوقوف الواعي والمتأمل إلا فيما ندر أمام هذه الظاهرة التي لا يمكن توصيفها بسهولة ويسر. باعتبار أنها جملة من التحولات التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية والايديولوجية المعرفية.
ويبدو لنا ان هذه الثنائية التناقضية في طبيعة الموقف أو ردّ الفعل العربي والإسلامي على مسألة العلمانية قد حرم المشتغلين بقضايا الفكر والثقافة والتراث الإسلامي من تقديم قراة نقدية موضوعية جادة لمسألة العلمانية والنتائج التي أدت اليها في مجتمعاتنا في سياق حركة التطبيق والفعل ولغيرها من المسائل الفكرية التي كانت موضوعاً للانقسام الحاد بين رواد النهضة وبين التيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية المشتغلة بهذه المسائل.
هذا وسنحاول في هذه العجالة الفكرية تقديم قراة نقدية لمفهوم العلمنة، وإشكالية العلاقة بينه وبين الدين الإسلامي.
ذكرنا سابقاً انّ القرآن الكريم يقدِّم الدين الإسلامي للناس جميعاً على أساس انه عقيدة إلهية ناظمة لحركة الواقع الروحي والمفاهيمي، وينبثق عنها قانون ونظام كامل للانسان والحياة، لذلك فهو (أي الإسلام) ليس مجرد علاقة روحية بين العبد وربّه وحسب، فيها شيء من الروح ونفحة من الأخلاق تنعكس على الواقع الداخلي للإنسان، كما انه ليس جملة تصورات قيمية لا تخضع للعقل والعلم، ولكنه دين حياتي عملي أنزله اللّه من أجل إقامة العدل بين الناس، وبالتالي إيصال كل انسان إلى كماله الممكن له بالكلمة الطيبة والقلب المنفتح والروح المتسامية. وهكذا انطلقت الأديان كلها ومنها الإسلام منذ بداية حركة التاريخ وفجر النبوات من أجل أن تشرع للانسان القوانين والمبادئ التي تنظم له خط العدل، عدل الانسان مع ربّه، وعدله مع نفسه، وعدله مع الناس وعناصر الحياة الأخرى من حوله(3). وجعلت له في كل ما يفعل وما يترك قانوناً معيناً مبرمجاً يستمد حيويته وحركيته مما أراد اللّه من مصالح للانسان ليقوم بها، وليبتعد عن المفاسد التي نهاه عنها.
من هنا لا يكون الإسلام فكرة روحية وأخلاقية مجردة ومثالية تحلق في عالم الخيال، أو تعيش في داخل الذات في علاقة الذات باللّه. ومن هنا أيضاً يكتمل الجانب الروحي للإسلام بالجانب السياسي، كونه يمتلك جانباً غيبياً يتصل بالعقيدة، وجانباً مدنياً يتصل بالحياة والوجود الخارجي، ولا يوجد فصل أو قطيعة بينهما حتى نتحدث عن إشكاليات إدخال السياسة في الدين أو إدخال الدين إلى عمق الحياة السياسية والاجتماعية لأنه من المفترض مبدئياً أن يمارس الدين عمله ووجوده في الواقع الاجتماعي المدني من خلال الأساليب والأدوات العقلانية المتوازنة التي لا تسيء إلى خطوطه العامة، وإلى أخلاقياته وقوانينه.
ان هذا الرأي صحيح عقائدياً وفكرياً لأن الإسلام وبخلاف المسيحية التي ساعدت هي(4) نفسها على أحداث الفصل بين الدولة والدين منظومة من المبادئ والأحكام والضوابط الشرعية التي يلتزمها الفرد المسلم بصفة أنها واجب رباني مقدس في مجال الحقوق والواجبات الشرعية والسياسية، وعلى نطاق المعاملات، والعقود، والعقوبات، وقوانين خاصة وعامة أو تفصيلية في مجال الحقوق الفردية والاجتماعية تنظم سلوكية الفرد والجماعة والأمة. ثمّ ان نبي الإسلام (ص) نفسه كان قائداً للدولة الإسلامية، وهو الذي عقد التحالفات، وخاض الحروب، ونظم المعاهدات، ووقع المواثيق، واضطلع بمسؤوليات تنظيم الاجتماع السياسي والمدني الديني.
إضافة إلى ذلك، فإنّ التاريخ السياسي والاجتماعي الإسلامي لم يشهد أبداً أية حركة قامت على أساس الفصل بين الديني والدنيوي، أو الفصل بين الدين والدولة، أو بين الدين ونظام الاجتماع السياسي أو الحقوقي أو المدني (باعتبار ان الإسلام كان هو الذي أسس للجانب المدني، وأكد عليه، وشرع له) على الرغم من أن نفس هذا التاريخ قد عرف الكثير من ثورات الإصلاح في داخل الأمّة، التي قامت غالباً على مبدأ ضرورة العودة إلى روحية المبادئ الإسلامية الأصيلة الأولى في وجه السلطات السياسية الحاكمة التي استأثرت بالفي، وبالسلطة، والامتيازات لوحدها مدعية أنها تحكم بموجب صك إلهي مقدس.
إنّ البدايات الزمنية الأولى لتاريخية الصراع الفكري بين أنصار مشروع الدولة الإسلامية، وأنصار الصيغة العلمانية لا تكاد تتعدى بضعة عقود من السنين، كان الوعي الإسلامي قبلها لا يعيش اضطراباً حيال القضية، مفهوماً ومشروعاً، بل جل النقد الذي كتب في هذا المجال كان يتطلع إلى إدخال تعديل على التجربة القائمة فعلاً باسم الخلافة أو باسم الدولة الإسلامية. وبضعة عقود في حساب الوعي التاريخي للأمم لا تعطي شرعية للصيغة العلمانية للدولة إذا أردنا أن ننظر إلى المسألة من زاوية التقادم الزمني.
فالمسلمون عاشوا طوال قرون مع صيغة الدولة الإسلامية بصرف النظر عن نقاشنا لهذه الصيغة إيجاباً أم سلباً دون أن تكون هناك مشكلة نظرية تقود إلى الرفض، واذا كنّا قد شهدنا كثرة الصياغات الإجتهادية، فهي جميعاً تلتقي على الإيمان الكامل بالدولة الإسلامية كقاسم مشترك فيما بينها(5).
ونحن قد نفهم العلمانية في حقيقة مفهومها العلمي الصريح بأنها ليست ضدّ الدين، وليست إلحاداً، بالرغم من وجود فئات ملحدة تتخذ العلمانية شعاراً لها(6). وانها لا تلتزم في الواقع القانوني ديناً معيناً، وليست ملزمة في الواقع السياسي بخطوط دين معين. أي أن يغرق الدين والمتدينون في تسابيحهم وطقوسهم وصلواتهم وغيبياتهم في داخل الكنيسة والمسجد والقلب (باعتبار ان عرش الدين ليس له مكان سوى القلوب والضمائر) وتترك الحياة في الخارج للناس كي يدبروها وفقاً للتشريعات والقوانين الوضعية التي يرونها مناسبة وصالحة لمعيشتهم الدنيوية المتطورة باستمرار.
إنني أرى من خلال المقاربة السابقة ان نقطة الخلاف الوحيدة بين العلمنة المؤمنة(7) وبين الإسلام هي في علاقة الدين بمسألة التشريع والسياسة التي يعتقد العلمانيون بعدم وجود أية صلة للدين بتنظيم المجتمع سياسة وتشريعاً، في حين يرى المسلمون انّ الدين الإسلامي أساس في عملية التشريع والسياسة والتدبير، باعتبار انّ العدل يختزن في داخله عدل الحكومة والسلطة والحاكم، وعدل الشعب وعدل المجتمع والأمّة. وعندما يكون الأمر كذلك، فكيف يمكن أن تتحرك مسألة العدل في الواقع الاجتماعي والسياسي؟! في الواقع لابدّ من وجود إدارة تمارس العدل من خلال الشخصيات التي تتولى تنظيم وتسيير أمور المجتمع والناس، والشخصيات التي تراقب الذين يتولون ادارة شؤون الناس، والشخصيات التي تراقب الساحة التي يتحرك فيها هؤلاء وأولئك..
هل هذا إلا الحركة السياسية في الواقع؟! لاسيما إذا عرفنا أن هناك عدلاً في الأمن، وعدلاً في القانون، وعدلاً في الحكم، وعدلاً في السياسة. أما اذا أردنا من السياسة، مفهوم اللعبة الشيطانية التي تسمى «اللعب على الحبال» وممارسة الإلتواء والإنحراف، فهذه السياسة لا يرفضها الدين وحسب، ولكن ترفضها كل المواقع والاتجاهات والحركات الحضارية التي تريد للانسان أن ينفتح على قضايا الانسان والحرية والعدالة بالطريقة المسؤولة الواعية التي تؤسس لوجوده الفعال وتبني له إنسانيته، بدلاً من أن تسقط له إنسانيته من خلال ممارستها لأساليب وفنون اللعبة السياسية بالمفهوم المتداول حالياً في مختلف الأوساط الفكرية والسياسية.
وإذا كان هدف السياسة الدينية اقامة العدل بين الناس، وايصالهم إلى ما يصلح أمورهم وأحوالهم، ويبعدهم عن الانخراط في أجواء الفساد والانحراف، وبالتالي يحثهم على السير في خط الله والخير والعدل. واذا كانت السياسة في أعلى تعابيرها وأصدق معانيها تهدف إلى إقامة العدل والتوازن والمساواة بين الناس.. فلماذا نفرق بين ما هو ديني وبين ما هو سياسي، يتساءل الإسلاميون؟! إذاً، ليس للعدل معنى في الواقع العملي من دون سياسة، كما انّ الدين ليست له أية واقعية أو فائدة من دون عمل.. فلماذا إذاً تريد العلمانية وهذا هو لسان حال الإسلاميين فرض دينها وتشريعها الوضعي الجديد علينا كمسلمين، ونحن نزعم بأننا نمتلك قانوناً متكاملاً ندين به ونحترمه، ونقدسه، ونلتزمه في مسيرتنا الحياتية والانسانية بكل مفرداتها وعناوينها، من خلال تشريعات الله الدينية والمدنية الواردة في القرآن الكريم والسنّة الشريفة؟! ولماذا يصر عليها (على العلمانية) أصحابها بعد أن أدت إلى تحطيم التكوينات السياسية والاجتماعية والثقافية التقليدية في بلدانها، وخلخلت التوازنات الاجتماعية المادية والروحية، الأمر الذي كشف لنا بوضوح عجزها الفاضح عن صياغة معايير ونظم جديدة يمكن أن تكسبها ولا الجماعة، وشرعيتها، وإجماعها كشرط أساسي لأنها التناقضات الاجتماعية والتوترات السياسية المتفجرة في كل حدب وصوب من عالمنا الإسلامي، والإسراع في معالجة الأزمة الحضارية المفتوحة التي من مظاهرها تدهور المناخ الفكري، ومصادرة الحريات العامة، وتراجع مناخ الحوار العقلاني والمسؤول.
إننا نريد أن نؤكد هنا على وجود خلاف ثانوي (أو أساسي) حول فكرة أو نظرية، أو واقع معيّن بين التيارات والنخب السياسية والثقافية المختلفة يجب أن يكون قاعدة للالتقاء، ومنطلقاً للبدء بحوار جدي فيما بينها، بهدف استبعاد الإشكاليات والتعقيدات الساخنة المتحركة هنا وهناك التي قد تتحول إلى مصدر للنزاعات الدموية، كما يحصل حالياً، بدلاً من أن تكون أساساً للتفاهم وتحكيم لغة العقل والحوار النقدي الموضوعي الذي كان لغيابه عن ساحتنا الأثر الأكبر في جعل العلمانية أكبر موضوع سوء تفاهم على الاطلاق في الفكر السياسي العربي الحديث.
لقد كانت محصلة ذلك التعقيد بين العلمانيين والإسلاميين أن انتفت علاقات الوعي والحوار المتواصل بين القوى والنخب الفكرية والسياسية العربية والإسلامية التي تورط فرق منها في إقصاء ونفي الإسلام نفياً كاملاً من دائرة الاجتماع السياسي لظنه خطأ بأن هذه الطريقة الاستبعادية المأزومة هي السبيل الوحيد لإقامة الدولة الحديثة بجنتها العلمانية الموعودة، فيما تورط قسم كبير من الفريق الآخر بمعاداة الدولة الحديثة لظنه بأنها بديل عن الإسلام، أو على الأقل لظنه بأنها بديل عن قيم الإسلام وشرعيته في المجال السياسي والاجتماعي.
لقد نتجت تلك الورطة التي وقع فيها فريق من الإسلاميين في اطار موقفهم الرافض مطلقاً لفكرة العلمنة عن وجود خلل منهجي وفكري في طريقة وعيهم واستيعابهم لمدلول ومصطلح «العلمنة» من خلال عدم التفريق إسلامياً بين موضوعة السلطة كشأن بشري خاضع للتصورات والمفاهيم والتحولات والتغيرات البشرية بكل عناوينها ومفرداتها، وبين موضوعة الشريعة التي تعتبر شأناً إلهياً لا دخل للانسان فيه مطلقاً.
إنّ الإسلام يؤكد في هذا السياق على ضرورة عدم تدخل السلطة أو المؤسسة الدينية كسلطة الهية تدعي لنفسها العصمة وعدم الخطأ في حركة المجتمع والناس، طبعاً فيما يخص السلطة والحكم وطرق (آليات) تداول السلطة التي يجب أن ترتكز في الوعي الإسلامي على مبدأ الحرية والاختيار، وحق المعارضة في النقد، وحرية التعبير وإبداء الرأي الذي ضمن الإسلام وجوده وهيأ له أجواءه الخاصة.
وهذا ما تؤكده العلمنة المؤمنة في واقعها النظري في تركيزها على أهمية حق المجتمع في اختيار نوعية الحكم والممارسة السياسية التي يرتضيها لنفسه من أجل ادارة مختلف شؤونه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والفصل في خصومات أبنائه وخلافاتهم.
إنّ الإسلام لا يلغي كسب العلمانية الغربية في ما أنجزت من تحرير للعقل، وإبداعات علمية تقنية، وحريات ديمقراطية، بل يرحِّب بها، ويهب لها الرؤية التكاملية والفكرة الموجهة، بما لا يجعل منها وسائل للتسلط والتدمير، إنما مجرد وسائل لعبادة الله تعالى والتقرب إليه، عبر تسخيرها لخدمة العائلة البشرية كلها، والمحافظة على الكون، وإعداد الإنسانية لنيل رضوان الله (خالق الكون والإنسان) والسعادة في الدنيا والآخرة، وتحقيق التعارف والتعاون والعدل بين البشر استجابة للنداء الإلهي لكل البشر: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (البقرة/ 13). كذلك فإنّ العلمنة نفسها لا تفترض ولم تفترض في أي مكان فصل الدين عن السياسة، أو المعارضة بين قيمهما، فقيم السياسة لا يمكن أن تصدر عن شيء آخر غير معتقدات المجتمع وإيمانه، وإلا أصبحت السياسة نفياً لهويته الوطنية.. هذه هي وجهة نظر فريق الإسلاميين.
ويبقى علينا هنا أن نفكر بعد المقاربة السابقة بعقلانية متسائلين: كيف نحل إشكالية الإسلام والعلمنة؟! في الواقع انّ الإنسان المسلم محكوم بفكرة (وفطرة) التوحيد.. أي التنزيه المطلق لله تعالى. هذه الفكرة تحظى على ما يبدو بالأولوية المطلقة في فكره، وعقيدته، وجميع تصوراته عن الحياة والوجود لتشكل من خلال ذلك الأساس الأولي لكيان الأمة المسلمة الواحدة. لكن هذا الفرد المسلم يواجه كغيره من أفراد البشرية واقعاً تعددياً متناقضاً في عناصره ومعطياته وأبعاده..
في طبيعة الواقع الدنيوي الاجتماعي والحضاري، فكيف يوفق والحال هذه بين عقيدته التوحيدية ودنياه التعددية المتنوعة؟! كيف يرضي ربّه من خلال الالتزام بأوامره ونواهيه، ويعمل في الوقت نفسه على فتح امكانات واقعية جديدة له في الحياة الاجتماعية التي يعيش بين جوانبها بمستجداتها ومتغيراتها المتناقضة والمناقضة في كثير من مناحيها لعقيدته وفكره الديني؟! ما هو الحل؟ وكيف يحسم الأمر، اذا كانت هناك إمكانية للحسم في واقعنا السياسي والاجتماعي المتخلف الراهن؟! باعتقادي انه لن تكون هناك ثمة إمكانية لأي حسم معرفي عملي لأزماتنا المتتالية، طالما اننا لا نزال مستغرقين في ثقافة تقليدية مهيمنة على الروح والجسد معاً، وطالما اننا نلف وندور حول ما تعكسه تلك الثقافة في الواقع من أعمال وانتهاكات لأبسط القيم الانسانية، والانسان في عالمنا الإسلامي لم ينخرط بعد بفعالية في عملية التنمية والإبداع الحضاري التي لا يمكن أن تتحرك من دون توفر شرط الحرية ليكون باستطاعة مكونها الحقيقي السير والاستفادة الفعالة والمنتجة من القدرات والطاقات الهائلة الموجودة داخل هذه الأمة، من خلال ضرورة تعبئة امكانياتها ومواهبها في معركتها الحاسمة ضد كل مواقع تخلفها واهترائها وانهيارها الحضاري الاجتماعي والسياسي، والواقع العملي يثبت صحة ذلك.
إننا نهدف من خلال الطرح السابق إلى اطلاق سراح الاجتماع المدني والسياسي الإسلامي، وتحرير عناصره ومنطلقاته الموضوعية المحاصرة بين علمنة تتسع للإسلام ولكنها تصر على استبعاده وعزله ونفيه، وبين إسلام يتسع للصيغة المدنية المؤسساتية المبنية على الديمقراطية والحريات العامة وحقوق الانسان، ولكنه يصر على استبعادها من خلال سلوكيات وتنظيرات كثير من منظري ومنتجي ثقافة الإسلام المعاصرة.. ولعل في هذه الحقيقة المرة ما يسلط ضوءاً على ذلك الإنشطار العدائي الحاد في داخل المجتمعات العربية والإسلامية بين المجتمع المدني والسياسي.
ولذلك، قد يساهم ذلك العلاج الوسطي التقريبي -إذا صحّ التعبير- في تطوير الواقع السياسي والاجتماعي للمسلمين، ويدفع باجتماعهم المدني إلى المواقع الضرورية من التقدم، والدرجات العالية من الرقي، وامتلاك شروط الحياة المعاصرة، ومواجهة تحدياتها من خلال ضرورة التجديد والاجتهاد في فهم الدين، ومواكبة متغيرات العصر والحياة بما ينسجم ويتوافق مع المعطيات والأسس الحضارية الدينية الإسلامية، مع المحافظة طبعاً على الفكر الذي ينطلق من صميم قلب الحقيقة بعيداً عن خصوصيات البيئة، وجزيئات الثقافة والجوانب العاطفية لأنه يمثل فكر الحياة.
وهذا الأمر لا يعني بالضرورة بقاء القيم والمعايير التي يفرزها هذا الفكر مطلقة ومثالية في آليات تطبيقها في حركة الواقع، ولكن أن تكون نسبية وواقعية في طرحها وممارستها من قبل الانسان خصوصاً في ظروفنا الحالية المليئة بالتقلبات والتحولات اليومية المتزايدة.
إنّ ذلك يتطلب من القيم الأخلاقية في المجتمع المدني السياسي أن تكون واقعية، مرنة، ترتبط ارتباطاً مباشراً بالممارسة العملية للانسان، تخاطب مشاعره وأحاسيسه في أوضاعه الطبيعية المختلفة في الحياة، ثم نحاول بعد تنمية وعيه وإرادته الارتفاع به إلى المثل الذي لا يقترب من خلاله الانسان إلى ذروة الحتميات التي تعزله عن واقعه، ولكن أن تدفعه إلى تقصير المسافة بين القيمة كنظرية وبين القيمة كتطبيق لأن القيم لم تصنع أساساً ليبلغها الانسان، ولكن ليقترب منها، ولتكون قاعدة لحمايته من الانحراف، وتحديد خط سيره الواقعي.
إنّ المسألة التي يريد الإسلام للمسلمين أن يحركوها في كل التزاماتهم ومواقفهم العملية في الحياة هي أن يكونوا واقعيين فيما يطلقونه من أحكام، وفيما يحركونه من قضايا، لا بمعنى أن تسقط الواقعية قيمة أخلاقية هنا وقيمة أخلاقية هناك، ولكن أن تكون هناك حدود وضوابط لحركة القيم الإسلامية، تنطلق من الوعي بحاجات الناس الطبيعية في الأرض في اطار تنظيماتهم المدنية الاجتماعية، والتفكير بحجم طاقاتهم وقدراتهم الذاتية لأن القيمة المثالية (غير الواقعية) عقيمة وغير منتجة، انها تشل حركة الانسان، وتمنحه شيئاً من الاستقرار والسكون في فكره، وسلوكه، ووعيه.
على هذا الأساس، تكون القيمة الأخلاقية نسبية حتى في الأديان، ولهذا يقول الأصوليون (مراجع الفقه والتشريع الإسلامي): «ما من عام إلا وقد خص».
لذلك يجب عدم إثارة القيمة الأخلاقية الإسلامية بطريقة مطلقة لأنها تجمد المسلم في مواجهته للتحديات التي تقف أمامه وما أكثرها اليوم.
إنّ القيمة في الإسلام لها قدرة على ممارسة الضبط والتحديد لحركة الانسان المسلم. ولكنها تمنحه بالمقابل مساحة واسعة يستطيع فيها أن يملك حرية الحفاظ على قضاياه الكبرى. وهذا ما يفرض على العاملين في الخط الإسلامي التعامل مع الوقائع المستجدة والتحديات الخطيرة بعقلية واهية متسامحة، وبفكر انساني منفتح مرن واع لحسابات الواقع المحلي والعالمي، من أجل اتخاذ المواقف المدروسة والمتوازنة على أساس مصالح ضمان مصالحهم ومصالح ناسهم ومجتمعاتهم التي تنوء تحت قيود هائلة من الكبت والتخلف والاستبداد.
من هنا، تكون واقعية المبادئ والقيم (كالحرية مثلاً) أن نحاول اكتشاف وسائل وخيارات وأساليب عملية واضحة المعالم والخطوط لحركة القيمة في الواقع بما يتلاءم مع الآفاق الجديدة. أي أن نتحرك عملياً لتغيير الواقع بأدوات الواقع التي تحتاج إلى مَن يصنعها، ويفهمها، وينفتح عليها، ويطورها، ويحركها، ويصبر عليها وعلى ثمنها الباهظ.
هذا هو المعنى الحقيقي لواقعية ونسبية القيمة في الإسلام..
انّه معنى ينفتح على تعابير وتجليات المجتمع المدني الحديث في أوضح معالمه، وسماته، وخصائصه التي نعتقد أنها لا تتعارض في ديناميكيتها وتطورها وحركتها المستمرة مع القيم الإسلامية الواقعية باعتبارها قيماً ثابتة لأن الحركة ضمن الثابت وفي اطاره العام لا تعني تجميد الحركة.. والقول بوجود عناصر للقيم والثقافة تتسم بالثبات لا ينفي وجود عوامل تغير (محركة) يمكن أن تؤثر في هذه القيم وتلك الثقافة، بحيث تعيد تشكيلها في سياق التفاعل الايجابي مع الحركة الاجتماعية، فتنشأ نتيجة ذلك منظومة جديدة للقيم والثقافات والمعايير، تختلف قليلاً أو كثيراً عن المنظومة التقليدية. وقيمة وجود تصور ثابت للقيم (نسبياً)، هو ضبط للحركة البشرية مع وجود الأصيل والمحور الثابت الذي يرجع اليه الانسان بكل ما يعرض له من مشاعر وأفكار وتصورات، وبكل ما يجد في حياته من ملابسات وظروف. ومن ثم فهناك ثبات في الغايات، والأهداف والنتائج، ومرونة في الوسائل والأساليب. أي ثبات على الأصول والقيم الدينية والأخلاقية الإنسانية، ومرونة في ايجاد الأشكال المؤسسة في الواقع المعاش.
أما بالنسبة للتغير كعنوان للحركة التي تعد جوهراً ثابتاً للوجود وقانوناً أساسياً في الحياة، فإنه يشمل العناصر المتغيرة بفكرها ومعارفها وقيمها من أجل بروز عناصر أخرى جديدة تطلبت ظروف الحياة المستجدة ظهورها بغية تحقيق الاستقرار والانسجام في مكوناتها وعناصرها بين القيمة والفكر والواقع، بما يؤدي في النهاية إلى كمال الانسان المسلم في ساحة الوجود ومعترك الحياة في إطار إحساسه العميق بوجوده الحر المسؤول.
والحرية كمفهوم وفكرة انسانية صميمية ترتبط بأصل القيم الإسلامية المطلوب تمثلها وتجسيدها في اطار التجربة الانسانية الواقعية، والتحقق من واقعية تطبيقها، وتحويلها إلى حقيقة قادرة على النمو والانطلاق في المجال السياسي الغربي والإسلامي كدافع عملي حيوي أصيل لاقامة المجتمع المدني الإسلامي، ان ذلك المفهوم السحري (الذي يشكل أحد أهم ركائز وأركان المجتمع المدني الحديث) لا يعتبر إشكالية معيقة لبناء مجتمع مدني متطور وفق التصور والرؤية الإسلامية، بل على العكس من ذلك لقد جعلها الإسلام -أي الحرية- قيمة أخلاقية واقعية نبيلة، اعترف بوجودها كمقابل خارجي لكرامة الانسان، يحرر طاقاته وملكاته من استعباد الصنميات والوثنيات المنتشرة هنا وهناك، ويجعل تلك الملكات والطاقات خالصة لله: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) (الأنفال/ 23). فكانت رسالته في العقيدة والشريعة تحرير الانسان، وذلك حتى تتحرر فيه هذه الملكات، وتخرج تلك الطاقات إلى الواقع: (الذين يتبعون النبي الأمّي).. (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) (الأعراف/ 157)، فجميع أحكام شريعة الإسلام إذاً تحرير، حتى عندما تحرم الخبائث والكبائر لأن اجتناب هذه الخبائث تحرير للانسان من العبودية لها، ومن ثم فكل الإسلام أحيا بالحرية، يضع على المؤمنين به القيود والأغلال المادية، والقانونية، والخلقية، وينمي ويزكي الطاقات الخيرة لتغالب وتتغلب على الأغلال والقيود والأثقال، فتصبح قمة العبودية لله هي ذروة الحرية والتحرير للانسان.
وبهذا التأسيس العملي لقيمة الحرية في الإسلام الذي يلحظ، باهتمام بالغ، دور الجوهر والمضمون الانساني في عملية التنمية، وبناء الانسان الحر من خلال تنميته لإرادته، ووعيه لمقومات شخصيته الذاتية في ضوء إيمانه بخالقه العظيم تنفتح أمام الانسان مجالات واسعة للمساهمة المركزة الفاعلة في البناء الحضاري للمجتمع المدني القائم أساساً على مبدأ الحرية كقيمة واقعية فردية واجتماعية عبر تحريك طاقته ومواهبه على طريق التنمية والانتاج والابداع. ونحن عندما نتحدث عن مسألة التعامل الإيجابي للإسلام مع قضية الحرية، فإننا لا نهون ولا نقلل من حجم التأثيرات السلبية الكثيرة التي قد تنجم عن سوء فهم واستخدام وممارسة هذه الحرية في مجالنا التاريخي الإسلامي، الذي أضحى الاستبداد الفكري والسياسي طابعاً ثابتاً فيه، بحيث أصبحت الطرق المؤدية إلى جنّة الحرية الباسقة والمثمرة في تربتنا السياسية والاجتماعية وعرة وشائكة ومملوءة بالأخطار الداهمة والمقيمة، خصوصاً اذا ما عنينا بالحرية هنا الحرية الفكرية والثقافية كأساس لحرية تنظيم مفردات السياسة والواقع الاجتماعي الخارجي.
ضمن هذا الإطار يفترض (بالنخبة!!) الفكرية والسياسية العربية والإسلامية أن تمتنع قليلاً عن الجدل القائم فيما بينها حالياً حول البحث عن مثال وحيد وفريد للحرية يمكن أن يتحول إلى نموذج يحتذى ويقتدى، ويصلح للتعميم على الأمم جميعاً، وذلك كشرط رئيسي من شروط وعي مسالة الحرية، ودورها الهام في هيكلية المجتمع المدني والسياسي الإسلامي.. وعليها أيضاً أن لا تتعامل معها (مع قضية الحرية) بعقل لاهوتي خلاصي، حيث رأينا كيف دفعت شعوبنا الأثمان الباهظة لتأليه فكرة الحرية، ولا عجب في ذلك فمن يقدس شيئاً بهذا المعنى يقع ضحية له..
فكان عشاق الحرية و«لاهوتيوها» -اذا جاز التعبير- هم أول ضحاياها، وهم أول مَن أسهم في ضربها وإسقاطها عبر نماذجهم العقائدية التراثية والحداثوية.. أي بين تسلط مستحاثات (ديناصورات) التاريخ ومسوخ الحداثة.
ومع ان جوهر الحرية واحد، لكن ما أكثر الشعوب التي تستطيع أن تجرب وجوهاً مختلفة للحرية بلحاظ تفاوت واختلاف الأوضاع التاريخية والاجتماعية، حتى يكون لها خيارات مختلفة ومتعددة في طريق الحرية، وتحديد أولويات مراتبها.. أي أن يتم التعاطي مع الحرية ليس كبعد ثابت (هوية مغلقة وثابتة، أو قيمة مطلقة عالية) ولكن كبعد متغير نمارس من خلاله قدرتنا العملية على التحول والابتكار والابداع بما نجترحه من فضاءات وإمكانات وصيغ ومعادلات جديدة.. ولن نستطيع الوصول إلى ذلك ما لم نعمل على ايجاد رؤية واضحة، وتصور سليم، وتفسير مقنع يخلق ارادة الفعل، ويفتح أفق العمل، ويبعث في الانسان الأمل والحيوية والفاعلية والنشاط.
انّ التحولات الايجابية الكبرى والمؤثرة في حركة المجتمع الإسلامي التي يجب أن تنطلق فيه استجابة عملية فاعلة ومنتجة للواقع الخارجي المليء بالتحديات المحدقة للأمة لا يمكن أن نضمن انطلاقتها الواعية تلك من دون وجود الحرية، ورسوخها في جوانب هذا المجتمع.. أعني بها حرية الفكر والرأي، وتوفر عناصر الأمن والضمان الواقعي في إبرازه والتعبير عنه، وتهيئة المقدمات الكفيلة بالحفاظ على هذه الحرية، وضمان أمن الأحرار وأصحاب الفكر وحملة الأقلام الرسالية. كما أعني بها أيضاً الحرية الاجتماعية التي تعبر عن الطاقة والقدرة التي يكسبها الانسان من المجتمع على القيام بفعل شي معين، وتعني هذه القدرة ان المجتمع يوفر للفرد كل الوسائل والشروط التي يتطلبها القيام بذلك الفعل.
وكما قلنا سابقاً من الأفضل لنا في هذا المجال ألا نكون مثاليين في طرحنا لفكرة وقيمة الحرية في المطلق، كما لو كنا نعيش في واقع مثالي لا حدود فيه ولا حواجز أو تحديات. إذ إننا نمارس وجودنا في مجتمع أرضي نسبي يجب أن نتعامل فيه مع حياتنا ووجودنا بلون من الواقعية العملية فيما يتصل بطبيعة حركة القيم الانسانية، وسبل إنجازها أو الوصول اليها في ظروف كظروفنا ومناخاتنا السياسية والاجتماعية والفكرية.
إننا نحتاج إلى تحليل علمي وموضوعي للقيمة الذاتية لمعنى الحرية بعيداً عن التعابير الفضفاضة والرنانة، لأن ذلك وحده يوفر التربة المناسبة لاستنبات ونمو بذرة الحرية المطلوبة.
وبهذا المعنى الموضوعي المتوازن لا تكون الحرية وفق التصور الإسلامي عائقاً أو مانعاً أمام بناء متطلبات وركائز المجتمع الإسلامي الحديث، بل تصبح عاملاً أساسياً دافعاً لوجوده وتكونه، وشرطاً ضرورياً من شروط قيامه وتطوره، ونجاح مسيرته، وتنمية مختلف مواقعه التي ترتبط بقضية الحرية من حيث انه لا تنمية يحتاجها مجتمعنا الحديث مع فقدان الحرية والأمن، والاستقرار النفسي والمادي..
ولا تنمية مع عدم وجود اعتراف مبدئي بحقوق الانسان وضمان ممارسته لحرياته العامة، حيث انه مع وجود الانسان المضطهد والمقموع لا يمكن أن تتحقق التنمية المرغوبة.. كما انه لا تنمية مع الاستبداد السياسي المعيق للتطور الثقافي والحضاري..
ولا تنمية مع استغلال خيرات البلاد لصالح فئة خاصة أو حاكم معين.. ولا تنمية مع وجود عقدة الانبهار بالغرب وحضاراته ومنجزاته، وعدم الثقة بالنفس، واهتزاز الهوية والخجل من التراث. انّ الشرط الأساسي لنجاح واقلاع التنمية عندنا هو إشراك الأمة كلها والشعب كله في صلب العملية التنموية، ودمجهم فيها، واستحصال رضاهم الطبيعي (لا القسري) عن فعاليات التنمية، ونشاطات وتوجيهات أنظمتهم وحكوماتهم السياسية القائمة وتفاعلهم معها لأن فعل التنمية يستهدف الحفاظ على الهوية، وتحقيق التقدم بالتوافق مع النسيج الحضاري للأمّة.
مما تقدّم من تحليل وقراءة لبعض الإشكاليات التي ظنّ الكثيرون انها يمكن أن تشكل مانعاً من التطور الاجتماعي والسياسي العربي والإسلامي باتجاه المدنية والعصرنة يمكن أن نخلص إلى أننا نتطلع بشوق إلى ممارسة دور حضاري رائد بين أمم وحضارات العالم كلها. ولا سبيل أمامنا نحو ذلك الهدف الكبير سوى البدء الفوري بتربية إنساننا المسلم على قيم انسانية عملية جديدة تنطلق من الوعي الفعال بالتراث الإسلامي، والاستفادة من إيجابيات العصر الراهن، من خبرات وتجارب الشعوب الأخرى.. وإلا فإنّ الفشل ينتظرنا، تماماً كما حدث لنا من فشل لكل السياسات التي اتبعت لتطوير الواقع منذ عهود الاستقلال وحتى الآن. ولم يكن الدين أبداً في جوهر فكرته الانسانية الراقية هو المسؤول عن سقوط وفشل تلك المشاريع التحديثية برمتها، كما تزعم بعض التيارات القائمة.
وإنما الفشل موزع بين هؤلاء جميعاً، وبخاصة السياسة والقيادة (الدينية أم العلمانية، لا فرق) التي أخذت على عاتقها مهام التنظيم والتوزيع والاستثمار والادارة في المجتمع، بما في ذلك إدارة المرافق والرأسمال الروحي.. انّ السياسات الراهنة هي نفسها المسؤولة عن تطور الأوضاع الدينية، والسياسية الدينية إلى ما هي عليه اليوم، بما في ذلك إعاقة حركة التجديد الديني، وحرمان الدين من امكانيات التطور العقلاني والروحي.
ولذلك فإننا نتصور أن تحميل الدين في جوهر فكرته الانسانية مسؤولية الفشل والخراب المادي والمعنوي الهائل الذي تعانيه مجتمعاتنا، هو أمر خطير للغاية لأنه يحجب النظر عن حقائق الأمور، ويغطي على أصحاب المسؤوليات الحقيقية، ويضعف لدى هؤلاء (ولدى غيرهم من النخب) الشعور بالمسؤولية، كما انه يساعد على زيادة مساحة واقع الفساد والإفساد في بلادنا ومجتمعاتنا.
من هنا يأتي تأكيدنا الدائم المستمر على ان من أهم العوامل الواقعية في نجاح وضمان استمرارية صعود المناهج والفعاليات التي تتخذ لتنظيم الحياة الاجتماعية، وبناء مجتمع عصري متقدم حديث، هو احترام وتقدير الناس لها، وإيمانهم بحقها في التجسد، والتنفيذ، والتطبيق، والاجراء. وهذا المعطى الحضاري النفسي الرائع لن يتحقق إلا بتوفير ظروف نجاحه واستمراريته، التي لن تتأتى إلا بإزالة التناقض بين الإطار المفروض للتنمية والتنظيم، وبين فكر الانسان المشارك أو غير المشارك في التنمية، حيث نجد انّ الفرد المسلم لا يزال يعتز ويفخر بالانتماء النهائي لعقيدته الدينية، ويعتبرها محوراً أساسياً لحركته الفردية والاجتماعية، بل انه يجد فيها سنداً قوياً وكبيراً، وعاملاً مساعداً على إنجاح التنمية الموضوعية في اطاره، لأن أساس النظام الإسلامي أحكام الشريعة الإسلامية، وهي أحكام يؤمن المسلمون عامة بقدسيتها وحرمتها، ووجوب اتباعها وتنفيذها وتطبيقها بحسب عقيدتهم الإسلامية، وإيمانهم بأنّ الإسلام دين نزل من السماء على النبي محمد(ص)، وهو عقيدة إلهية ونظام اجتماعي وفكري وسياسي تنبثق عنه إطارات وآليات التنمية الحقيقية الشاملة القادرة على خدمة الانسان، وتلبية متطلباته المتجددة، وبناء مجتمع مدني حضاري متطور.
-------------------
* الهوامش والمصادر:
1- يعتبر بعض المثقفين والنخب الفكرية والسياسية أن الأديان عموماً والطوائف والعشائر والقبائل تقف على تضاد (وطرفي نقيض) مع صيغة الدولة باعتبارها مؤسسة حديثة. وتبعاً لذلك، فإن هذه الإنتماءات ما قبل الوطنية والقومية (والتي ترتد بحسب زعمهم إلى منطقة القاع الحضاري الماضوي الجامد للأمة) تشكل بمجملها حواجز ومعيقات عملية تحول دون الانتقال إلى المجتمع المدني.
2- طرح هذا المفهوم (العلمانية) نسبة إلى العلم: العالم (الدنيوي أو المذهبي الدنيوي) في سياق المواجهة التي دارت بين الكنيسة ورجالاتها من جهة وبين القوى الزمنية والعلمية الممثلة بالأمراء والملوك من جهة أخرى.
3- لاحظ قوله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) (الحديد/ 22) الذي يعني أن مسألة الدين تساوي وتوازن مساءلة العدل، أي أنّ الرسالات السماوية كلها تختصر حركتها بهدف واحد هو العدل.
4- تخلو المسيحية من المبادئ والشرائع الخاصة بتنظيم الاجتماع البشري على صعيد السياسة والحقوق والمعاملات. فمملكة المسيح ليست في هذا العالم، وهي في الأساس فصلت بين الله وبين القيصر.
5- خالد توفيق، موقف التيار العلماني من الدولة الإسلامية، مجلة التوحيد الايرانية، العدد 93، ص 30، 1998م.
6- يرفض الإسلام رفضاً قاطعاً مفهوم العلمانية الملحدة، ويتنافى قطعاً مع موجباتها ومنطلقاتها وركائزها الفكرية، وهذا عائد إلى طبيعة العقيدة الإسلامية بوصفها نظام فكري وعقائدي ديني.
21- مصطلح فكري يشير إلى العلمانية التي تقول بالتصرف وفق المقتضى العقلي، وفصل الدين عن الدولة، لكن من دون التورط في مواجهة حادة مع الدين من خلال نفيه.